أفلم يدبروا القول
الحمد لله الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً, وجعل القرآن هادياً للناس وجعله تذكرة لأولي الألباب وللقلوب ضياء ونوراً, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد:
فإن تدبر القرآن عبادة حثنا الله عليها لما تشتمل عليه من حِكَم وفوائد تربي المسلم وتأخذ بيده لالتماس الخير واقتباس الدروس والعِبَر, واعلم أن من حِكَم التدبر: أنه يدفعك للعمل بقناعة ويقين, ويجعلك مرهف الذوق رقيق الحسّ, ويفتح لك أبواب البيان وسبل الإبداع في العمل والدعوة.
وحين تتدبر القرآن الكريم وأنت تتلوه في هدأة الليل وصفاء الكون تأتيك حقائق، وتنكشف لك أسرار تزيدك إيماناً بأنه كلام المولى تعالى منه بدأ وإليه يعود، وتضيء لك أنوار الحق، وتنبثق أفكار الهداية وأنت تقرأ فيه قصص الأنبياء والأمم السابقة، وتكون لك عوناً على الثبات والدعوة والجهاد.
ومن فوائده أنه ميسّر لكل تالٍ وحافظ كما قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر (17) سورة القمر.
ويربطك بالحياة ويعالج مشكلاتها؛ قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (44) سورة النحل. ويهبُك فطنة وذكاءً وسرعة بديهة, قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (29-30) سورة فاطر.
ألا ترى معي إلى ذلك الصبيّ وهو يترنم بآيات من الكتاب العزيز يتلوها ويستظهرها في حِلَق التحفيظ ولمَّا يصل سن البلوغ بعدُ، وقد استظهر آيات تتعلق بأحكام الطلاق والنكاح، وأخرى بالغنائم والقتال, ونحو ذلك مما قد يُشكِلُ عليه فهم معانيها لكنه ميسّر له حفظها وتلاوتها.
إنه أمر يدعو إلى التأمل في عظيم هذا الكتاب المعجز، والحث على العيش مع آياته وتوجيهاته بتدبر وتفكر1.
ألا ترون رحمكم الله إلى مولاكم الكريم كيف يحث خلقه على أن يتدبروا كلامه، ومن تدبر كلامه عرف الرب -عز وجل- وعرف عظيم سلطانه وقدرته، وعرف عظيم تفضله على المؤمنين، وعرف ما عليه من فرض عبادته، فألزم نفسه الواجب، فحذر مما حذره مولاه الكريم، ورغب فيما رغبه فيه، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن وعند استماعه من غيره كان القرآن له شفاء، فاستغنى بلا مال، وعز بلا عشيرة، وأنس بما يستوحش منه غيره، وكان همه عند التلاوة السورة إذا افتتحها: متى أتعظ بما أتلوه؟ ولم يكن مراده متى أختم السورة؟ وإنما مراده متى أعقل من الله الخطاب؟ متى أزدجر, ومتى أعتبر؛ لأن تلاوته للقرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة2.
أخي الكريم:
ما درجة أهمية تدبر القرآن في عقولنا؟ وما نسبة التدبر في واقعنا العملي فيما نقرؤه في المسجد قبل الصلوات؟ وهل نربي أبناءنا وطلابنا على التدبر في حِلَق القرآن؟ أم أن الأهم الحفظ وكفى بلا تدبر ولا فهم؛ لأن التدبر يؤخر الحفظ؟ ما مقدار التدبر في دروس العلوم الشرعية في المدارس، وخاصة دروس التفسير؟ وهل يربي المعلم طلابه على التدبر، أم على حفظ معاني الكلمات فقط؟ تُرى: ما مرتبة دروس التفسير في حِلَق العلم في المساجد؟ هل هي في رأس القائمة أم في آخرها, هذا إن وجدت أصلاً؟ ما مدى اهتمامنا بالقراءة في كتب التفسير من بين ما نقرأ؟ لماذا يكون همُّ أحدنا آخر السورة، وقد نهينا عن ذلك؟ ومتى نقتنع أن فوائد التدبر وأجره أعظم من التلاوة كهذِّ الشعر؟ أسئلة تبحث عن إجابة؛ فهل نجدها لديك؟3
أخي:
إن كل من لم يشتغل بتدبر آيات هذا القرآن العظيم أي تصفحها وتفهمها، وإدراك معانيها والعمل بها فإنه معرض عنها غير متدبر لها، فيستحق الإنكار والتوبيخ المذكور في الآيات إن كان الله أعطاه فهماً يقدر به على التدبر، كما قال تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) سورة محمد.
وقد شكا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه من هجر قومه هذا القرآن, كما قال تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) سورة الفرقان. وهذه الآيات المذكورة تدل على أن تدبر القرآن وتفهمه وتعلمه والعمل به أمر لا بد منه للمسلمين, وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المشتغلين بذلك هم خير الناس, كما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- في الصحيح من حديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أنه قال: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)4. وقال تعالى: وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79) سورة آل عمران.
إخواني:
إن إعراض كثير من الأقطار عن النظر في كتاب الله وتفهمه والعمل به وبالسنة الثابتة المبينة له من أعظم المناكر وأشنعها، وإن ظن فاعلوه أنهم على هدى5.
وإن النظر في آيات الكتاب العزيز والسنة المطهرة وفقهها وتدبر ما فيها إذا وقع صدّق القرآن بعضه بعضاً في فهم القارئ, كما هو مصدق بعضه بعضاً في واقع الأمر, وإذا أعرض الإنسان عن التدبر ولم يأخذ بالقرآن كله وضرب الأدلة بعضها ببعض اختلفت عليه فكان ذلك سبباً في انحرافه عن الحق, والعياذ بالله, قال تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا (82) سورة النساء6.
اللهم اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء همومنا وغمومنا, اللهم ذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا وارزقنا تلاوته وتدبره آناء الليل وأطراف النهار, وصلِّ اللهم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه وسلِّم, والحمد لله رب العالمين.
1 من مجلة البيان العدد 163 ص139 ربيع الأول 1422هـ.
2 أخلاق أهل القرآن لـ(الآجري).
3 مجلة البيان، العدد144 ص20 شعبان 1420هـ.
4 رواه البخاري -4639- (15/439).
5 أضواء البيان للشنقيطي.
6 بتصرف من كتاب بحوث ندوة أثر القرآن في تحقيق الوسطية ودفع الغلو, تأليف (مجموعة من العلماء).