ولا تنازعوا فتفشلوا
الحمد لله رب العالمين، القائل في محكم التنزيل: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}1، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فقد أمر الله - تبارك وتعالى - أمر بالاجتماع والاعتصام بالكتاب والسنة فقال - تبارك وتعالى -: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}2، وأخبر أن التفرق والاختلاف من سبل أهل الكتاب فقال الله - تبارك وتعالى -: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}3، وأخبر أن الذين رحمهم الله لا يختلفون فقال - تبارك وتعالى -: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}4, وأخبر أن الذين اعتصموا به سيدخلهم الله - تبارك وتعالى - في رحمته فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً}5.
والتَّنَازُعُ: هو "التخاصم ونَازَعَت النفس إلى كذا نِزَاعاً اشتاقت، وانْتَزَعَ الشيء فانتزع أي اقتلعه فاقتلع"6؛ والتَّنازُعُ: "التَّخاصُمُ والتَّناوُل، والتَّنَزُّعُ: التَّسَرُّعُ"7؛ قال المناوي - رحمه الله -: "الخلاف منازعة تجري بين المتعارضين لتحقيق جواز إبطال باطل ذكره ابن الكمال، وقال الراغب الخلاف والاختلاف والمخالفة أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الأول في فعله أو حاله8".
قال العلامة الشنقيطي - رحمه الله -: "قوله - تعالى -: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}9 الآية، نهى الله - جل وعلا - المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن التنازع، مبيناً أنه سبب الفشل، وذهاب القوة، ونهى عن الفرقة أيضاً في مواضع آخر كقوله: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} ونحوها من الآيات، وقوله في هذه الآية: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي: قوتكم، وقال بعض العلماء: نصركم؛ كما تقول العرب: الريح لفلان إذا كان غالباً، ومنه قوله: "إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل عاصفة سكون10".
ووقوع النزاع سبب للفشل، وذهاب الريح، وتسلط الأعداء، وفي المقابل فإن من أهم أسباب النصر: الاجتماع، ووحدة الصف قال الله - تبارك وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}11، وحاصل القول في هذه الآية الكريمة: أن الاختلاف والتنازع عاقبته الفشل والخسران، وأن التعاون والوفاق سبب للفوز والنجاح في الدنيا والآخرة؛ والمتأمل لتاريخ الأمم والشعوب بما فيه تاريخ أمتنا الإسلامية؛ لا يعجزه أن يقف على العديد من الأحداث والشواهد والمشاهد - على المستويات كافة - التي تصدق ما أخبر به القرآن الكريم، وصدق الله - تبارك وتعالى - إذ يقول: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}12فهل يعمل المسلمون بهذا الأمر الإلهي أم ما زالوا عنه غافلين؟
إن المتأمل لحال أمتنا، وما وقعت فيه من تسلط الأعداء عليها يجد السبب في عدم وحدتها وتفككها وتناحرها فيما بينها, فهل من عودة ورجوع حتى تستحقون نصر الله - تعالى -، وقد أحسن القائل:
كونوا جميعاً يا بـني إذا اعترى *** خطـب ولا تتفرقوا أفراداً
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً *** وإذا افترقن تكسرت آحاد13
وعلى هذا فإن على المسلمين أن يكونوا جميعهم كإنسان واحد، حيث أن النصوص الشرعية تحرم كل شيء يؤدي إلى التفرق والتنازع والشتات.
نسأل الله - تبارك وتعالى - أن يلم الشمل ويجمعه على هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يستحقون النصر على أعدائهم إنه على كل شيء قدير، والله - تبارك وتعالى - أعلم وأحكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
1 سورة الأنفال (46).
2 سورة آل عمران (103).
3 سورة آل عمران (105).
4 سورة هود (118- 119).
5 سورة النساء (175).
6 مختار الصحاح (1/688).
7 القاموس المحيط (1/990).
8 التعاريف (1/322).
9 سورة الأنفال (46).
10 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (9/95).
11 سورة آل عمران (200).
12 سورة آل عمران (103).
13 الاختلاف في العمل الإسلامي الأسباب والآثار (1/70).