أنواع الطواف بالبيت
الحمد لله الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعم المولى ونعم النصير, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد والمصير, وسلم تسليماً, أما بعد:1
فإن الحديث سيتركز في هذا الدرس بشيء من التفصيل حول أنواع الطواف التي يقوم بها المسلم عند زيارته بيت الله الحرام, وانطلاقاً من هذا العنوان فإن الأطوفة المشروعة في الحج ثلاثة: طواف القدوم، وطواف الإفاضة أو الزيارة، أو طواف الركن، وطواف الوداع أو طواف الصَّدَر وهو طواف آخر العهد بالبيت، سمي بذلك؛ لأنه يودّع البيت ويصدُرُ به, وما زاد على هذه الأطوفة فهو نفل, وأما السعي فواحد، ولا يكون السعي إلا بعد طواف، فإن سعى مع طواف القدوم لم يسْع بعده، وإن لم يسْع معه، سعى مع طواف الزيارة.
هذا وقد أجمعوا على أن المكي ليس عليه إلا طواف الإفاضة, كما أجمعوا على أنه ليس على المعتمر إلا طواف العمرة، فليس عليه طواف قدوم, وأجمعوا على أن المتمتع عليه طوافان: طواف للعمرة لحله منها، وطواف للحج يوم النحر, أما المفرد للحج فليس عليه إلا طواف واحد يوم النحر، ويجب عليه عند المالكية القدوم أيضاً إن اتسع الوقت له، ويسن ذلك عند الجمهور, وأما القارن فيجزئه عند الجمهور طواف واحد وسعي واحد، عملاً بمذهب ابن عمر وجابر، وقال الحنفية: على القارن طوافان وسعيان عملاً بمذهب علي وابن مسعود.
وأجمعوا على أن الواجب من هذه الأطوفة الثلاثة الذي يفوت الحج بفواته: هو طواف الإفاضة، لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (29) سورة الحـج. وأنه لا يجزئ عنه دم, واتفقوا -ما عدا طائفة من المالكية- على أنه لا يجزئ طواف القدوم عن طواف الإفاضة إذا نسي طواف الإفاضة؛ لكونه قبل يوم النحر, ورأى جمهور العلماء أن طواف الوداع يجزئ عن طواف الإفاضة إن لم يكن طاف طواف الإفاضة؛ لأنه طواف بالبيت معمول في وقت الوجوب الذي هو طواف الإفاضة، بخلاف طواف القدوم الذي هو قبل وقت طواف الإفاضة.
والحاصل أن العمرة ليس فيها طواف قدوم، وإنما فيها طواف واحد، يقال له طواف الفرض وطواف الركن، وإذا طاف للعمرة أجزأه عن طواف القدوم وطواف الفرض.
والقارن والمفرد بالحج يطوف ثلاثة أطوفة: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع, وهناك طواف رابع متطوع به غير ما ذكر، ولا يكفي القارن عند الحنفية طواف واحد، بل عليه طوافان للعمرة وللحج وطواف القدوم للمفرد والقارن إذا كانا قد أحرما من غير مكة ودخلاها قبل الوقوف بعرفة.
1- طواف القدوم:
طواف القدوم سنة عند جمهور الفقهاء لحاج دخل مكة قبل الوقوف بعرفة، سواء أكان مفرداً أم قارناً، وليس على أهل مكة طواف القدوم؛ لانعدام القدوم في حقهم، وأما غير أهل مكة فسنة لهم بالدليل الثابت في خبر الصحيحين، ولا يسن للحاج بعد الوقوف بعرفة، ولا للمعتمر؛ لأنه دخل وقت طوافهما المفروض.
وعليه فيسقط طواف القدوم عن ثلاثة: المكي ومن في حكمه وهو من كان منزله دون المواقيت، والمعتمر والمتمتع ولو آفاقياً، ومن قصد عرفة رأساً للوقوف.
وقال المالكية: يجب على من أحرم من الحِلّ ولو كان مكياً، وتجب الفدية على من قصد عرفة وترك طواف القدوم وكان الوقت متسعاً، وقال الحنابلة: يطوف المتمتع للقدوم قبل طواف الإفاضة، ثم يطوف طواف الإفاضة.
ويسن أيضاً عند الشافعية طواف القدوم للحلال غير المحرم الداخل إلى مكة؛ لأنه يسمى طواف القادم والورود والوارد والتحية.
والحكمة منه: أن الطواف تحية البيت، لا المسجد، فيبدأ به لا بصلاة تحية المسجد؛ لأن القصد من إتيان المسجد البيت، وتحيته الطواف.
ولا يبدأ بالطواف إذا خاف فوات الصلاة المفروضة، أو السنة المؤكدة، أو وجد جماعة قائمة، أو تذكر فائتة مكتوبة، فإنه يقدم ذلك على الطواف.
ولو أقيمت الصلاة وهو في أثناء الطواف قطعه وصلى، وكذا لو حضرت جنازة قطعه إن كان نفلاً.
ويستحب للمحرم أول دخوله مكة ألا يعرج على استئجار منزل أو غيره قبل أن يطوف طواف القدوم, لكن لو قدمت امرأة نهاراً هي ذات جمال أو شرف، وهي التي لا تبرز للرجال، سنَّ لها أن تؤخره إلى الليل, ولو دخل المسجد الحرام وقد منع الناس من الطواف، صلى تحية المسجد.
ولا يفوت طواف القدوم بالجلوس في المسجد، كما تفوت به تحية المسجد، لكنه يفوت بالوقوف بعرفة، لا بالخروج من مكة.
ويطوف القارن عند الحنفية طواف القدوم بعد إنهاء أعمال العمرة، أي بعد طواف العمرة والسعي بين الصفا والمروة.
وقال المالكية: يجب طواف القدوم لمن دخل المسجد الحرام، وينوي وجوبه ليقع واجباً، فإن نوى بطوافه نفلاً، أعاده بنية الوجوب، وأعاد السعي الذي سعاه بعد النفل ليقع بعد واجب، وذلك ما لم يخف فوتاً لحجه إن اشتغل بالإعادة، فإن خاف الفوات ترك الإعادة لطوافه وسعيه، وأعاد السعي بعد الإفاضة، وعليه دم لفوات طواف القدوم إن كان الوقت متسعاً، فإن خشي فوات الوقوف لو اشتغل بطواف القدوم سقط عنه ولا فدية عليه.
والحاصل: أن طواف القدوم واجب عند المالكية بشروط ثلاثة: إن أحرم المفرد أو القارن من الحل ولو كان مقيماً بمكة؛ ولم يزاحمه الوقت بحيث يخشى فوات الحج إن اشتغل بالقدوم، فإن خشيه خرج لعرفة وتركه؛ ولم يُردف الحج على العمرة في حرم, فإن اختل شرط من الثلاثة لم يجب عليه طواف القدوم ولادم عليه.
ووجوب الدم على من ترك طواف القدوم بشرطين: أولهما: أن يقدم السعي بعد ذلك الطواف على الإفاضة, وثانيهما: ألا يعيد سعيه بعد الإفاضة حتى رجع لبلده, فإن أعاده بعد الإفاضة، فلا دم عليه.
2- طواف الإفاضة:
أما طواف الإفاضة أو الزيارة: فهو ركن باتفاق الفقهاء، لا يتم الحج إلا به، لقوله -عز وجل-: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (29) سورة الحـج. قال ابن عبد البر: هو من فرائض الحج، لا خلاف في ذلك بين العلماء, وقالت عائشة: "حججنا مع النبي -صلّى الله عليه وسلم- فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد النبي -صلّى الله عليه وسلم- منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله، إنها حائض، قال: (أحابستنا هي؟) قالوا: يا رسول الله، إنها قد أفاضت يوم النحر، قال: (اخرجوا)2. فدل على أن هذا الطواف لا بد منه، وأنه حابس لمن لم يأت به، ولأن الحج أحد النسكين، فكان الطواف ركناً كالعمرة.
وسمي طواف الإفاضة؛ لأنه يؤتى به عند الإفاضة من منى إلى مكة، وسمي طواف الزيارة لأن الحاج يأتي من منى فيزور البيت ولا يقيم، وإنما يبيت بمنى.
فمن ترك طواف الزيارة، رجع من بلده متى أمكنه محرماً، لا يجزئه غير ذلك، لقصة صفية المتقدمة، فإنه -صلّى الله عليه وسلم- قال بعد أن حاضت: (أحابستنا هي؟) قيل: إنها قد أفاضت يوم النحر، قال: (فلتنفر)3.
فهذا يدل على أن هذا الطواف لا بد منه، وأنه حابس لمن لم يأت به، فإن نوى التحلل ورفض إحرامه، لم يحل بذلك؛ لأن الإحرام لا يخرج منه بنية الخروج, وعلى هذا فإذا فات طواف الإفاضة عن أيام النحر لا يسقط، بل يجب أن يأتي به؛ لأن سائر الأوقات وقته.
3- طواف الوداع:
أما طواف الوداع لمن أراد الخروج من مكة: فهو مندوب عند المالكية لكل من خرج من مكة ولو كان مكياً؛ لأنه لا يجب على الحائض والنفساء، ولو كان واجباً لوجب عليهما كطواف الزيارة.
وواجب عند باقي المذاهب يجبر تركه بدم، لما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض"4. وفي لفظ لمسلم: "كان الناس ينصرفون من كل وجه، فقال رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-: (لا ينفرن أحد، حتى يكون آخر عهده بالبيت)5، وأخرج الترمذي عن عمر -رضي الله عنه-: (من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت، إلا الحيَّض، ورخص لهن رسول الله صلّى الله عليه وسلم"6. وليس في سقوطه عن المعذور ما يجوِّز سقوطه لغيره، كالصلاة تسقط عن الحائض، وتجب على غيرها، بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها.
جزاء ترك طواف الوداع:
إذا ثبت وجوبه، فإنه ليس بركن بغير خلاف، ويجبر تركه بدم كسائر الواجبات، فلو خرج الحاج من مكة أو منى بلا وداع عامداً أو ناسياً أو جاهلاً بوجوبه، وعاد بعد خروجه قبل مسافة القصر من مكة، وطاف للوداع، سقط وجوبه عند الشافعية والحنابلة؛ لأن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر، وهو معدود من حاضري المسجد الحرام، وعليه أن يرجع إن كان قريباً من مكة، والقريب: هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، وإن كان بعيداً بعث بدم، والبعيد: من بلغ مسافة القصر.
شرائط طواف الوداع:
لطواف الوداع شرائط وجوب، وصحة أو جواز, فمن أهم شرائط الوجوب اثنان:
1 - أن يكون من أهل الآفاق: فليس عند الحنفية على أهل مكة ومن في حكمهم وهو من كان منزله داخل المواقيت طواف وداع إذا حجوا؛ لأن هذا الطواف إنما وجب توديعاً للبيت, وقال الحنابلة: من كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه، ومن كان منزله خارج الحرم قريباً منه فلا يخرج حتى يودع، لعموم الحديث السابق: (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)7. وقال الشافعية: يجب الوداع لكل من أراد الخروج من مكة لسفر ولو مكياً سواء أكان السفر طويلاً أم قصيراً، لحديث ابن عباس المتقدم: (لا ينفرن أحد..) . ولحديث أنس: أنه -صلّى الله عليه وسلم- لما فرغ من أعمال الحج طاف للوداع, وهذا العموم للمكي مندوب عند المالكية كما عرفنا.
2 - الطهارة من الحيض والنفاس: فلا يجب على الحائض والنفساء، ولا يجب عليهما الدم بتركه، للحديث السابق: رخص للحيَّض ترك هذا الطواف، لا إلى بدل، فدل على أنه ليس واجباً عليهن، إذ لو كان واجباً لما جاز تركه إلا إلى بدل، وهو الدم، فإذا حاضت المرأة قبل أن تودع، خرجت ولا وداع عليها ولا فدية بالاتفاق، لحديث عائشة المتقدم: أن صفية حاضت، فأمرها النبي -صلّى الله عليه وسلم- أن تنصرف بلا وداع.
ولم يشترط لوجوب هذا الطواف الطهارة عن الحدث والجنابة، وإنما يجب على المحدث والجنب؛ لأنه يمكنهما إزالة الحدث والجنابة.
وشرطا صحة طواف الوداع:
1- النية؛ لأنه عبادة، فلا بد له من النية, لكن تعيين النية ليس بشرط عند الحنفية، فلو طاف بعد طواف الزيارة، دون أن يعين شيئاً، أو نوى تطوعاً، كان طواف صدر؛ لأن الوقت تعين له، فينصرف مطلق النية إليه كصوم رمضان.
2- أن يكون بعد طواف الزيارة: فلو طاف بعد النفر من عرفات لا ينوي شيئاً، أو نوى تطوعاً أو نوى طواف الصدر، وقع عن الزيارة لا عن الصدر؛ لأن الوقت له، وطواف الصدر مرتب عليه.
ويتأدى طواف الوداع عند المالكية بطواف الإفاضة وطواف العمرة، وحصل له ثوابه إن نواه بهما كتحية المسجد تؤدى بالفرض8.
تلكم أنواع الطواف التي شرعت في الإسلام, عند البيت الحرام, والله أعلم, والحمد لله رب العالمين.
1 الضياء اللامع من الخطب الجوامع لـ(ابن عثيمين).
2 رواه البخاري برقم (1618) (ج 6 / ص 218) ومسلم (2353) (ج 7 / ص 9) واللفظ للبخاري.
3 رواه البخاري (4050) (ج 13 / ص 310) ومسلم (2353) (ج 7 / ص 9).
4 رواه البخاري (1636) (ج 6 / ص 251).
5 رواه مسلم (2350) (ج 7 / ص 6).
6 رواه الترمذي برقم (866) (ج 4 / ص 31) وصححه الألباني في تحقيق سنن الترمذي برقم (944).
7 سبق تخريجـه.
8 استفيد الموضوع من كتاب الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي أثابه الله.