السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كنتُ أنا وبعض الإخوة نتدارَس بعض الأمور الفقهيَّة في موضوع الطلاق، فصادفَنَا سؤالٌ وَرَدَ في موقع أهل الحديث، لم نجد له جوابًا شافيًا، فأردتُ أن أستشيركم فيه؛ لعلي أجد عندكم الحل، السؤال هو:
رجلٌ طلَّق امرأته ظنًّا منه أنها فعلتْ شيئًا ما، وكان هذا الطلاقُ قائمًا على هذا الظن الخاطئ الذي كان يقينًا ساعة وقوع الطلاق، ثم تبين له بعد ذلك أنه ظلَمها، وتسرع في الحكم عليها، وأنَّ الأمر الذي كان يظنُّ لم يحدثْ على الإطلاق، فهل في هذه الحالة يقع الطلاق أو لا؟ وما الدليل؟
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاتة.
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فإن كان هذا الزوجُ قد طلَّق زوجته بلفظٍ صريحٍ فقد وقع الطلاقُ، سواءٌ قَصَدَ الطلاقَ أو لم يقصده، المهم أنه قصد إيقاع اللفظ الصريح مختارًا له، فلم يُخطِئْ في إيقاع اللفظ الصريح، ولا كان مكرهًا، ولا ذاهلَ العقل، وسواءٌ ظنَّ أنها وقعت في الحرام أو غير ذلك؛ لأنَّ الطلاق الصريح لا يُشتَرط له النية، وإنما المعتَبَرُ هو تلفُّظُ العاقلِ غيرِ المكره بكلمة الطلاق؛ نَوَى ذلك أو لم ينوِهِ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثَلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ؛ النِّكَاحُ، وَالطَّلاقُ، وَالرَّجْعَةُ))؛ رواه أبو داود، والترمذي، وابنُ ماجهْ، وحسنه الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير"، والألباني في "صحيح سنن الترمذي"، ولكن لا يقع الطلاق إذا كان الزوج لم يقصد اللفظ أصلًا، وإنما جَرَى على اللسان بغير اختيار.
قال ابن قدامة - رحمه الله - في "المغني" (7/249): "صريحُ الطلاق لا يحتاجُ إلى نيَّة, بل يَقَعُ من غير قصد, ولا خلاف في ذلك...، وسواءٌ قَصَدَ المزْحَ أو الجِدَّ; لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثَلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ؛ النِّكَاحُ، وَالطَّلاقُ، وَالرَّجْعَةُ))؛ رواه أبو داود, والترمذي, وقال: "حديث حسن"، قال ابن المنذر: أجمع كل مَن أحفظُ عنه من أهل العلم, على أن جِدَّ الطلاقِ وهزلَه سواءٌ". انتهى.
قال ابن نُجَيْم - الحنفي - في "الأشباه والنظائر": "فلو طلق غافلًا، أو ساهيًا، أو مخطئًا وَقَعَ، حتى قالوا: إن الطلاق يَقَعُ بالألفاظ المصحَّفة قضاءً، ولكن لا بد أن يقصدَها باللفظ، قالوا: لو كَرَّرَ مسائلَ الطلاقِ بحضرتِها، ويقولُ - في كل مرة -: أنتِ طالقٌ، لم يَقَعِ الطلاقُ بحضرتِها، ولو كَتَبَت: امرأتي طالقٌ، أو أنتِ طالقٌ، وقالت له: اقرأ عليَّ، فقرأ عليها: لم يَقَعْ لعَدَمِ قصدِه باللَّفظِ.
ولا ينافيه قولُهم: إن الصريح لا يَحتاجُ إلى النية، وقالوا: لو قال: أنتِ طالقٌ ناويًا الطلاقَ من وثاق، لم يَقَعْ ديانةً، وَوَقَع قضاءً، وفي عبارة بعض الكتب: أن طلاق المخطئِ واقعٌ قضاءً، لا ديانةً، فظهر بهذا أن الصريح لا يحتاج إليها قضاءً، ويحتاج إليها ديانةً، ولا يَرِدُ عليه قولُهم: إنه لو طلقها هازلًا، يَقَعُ عليه قضاءً وديانةً؛ لأن الشارع - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ هزْلَه به جِدًّا".
قال الزركشي في "المنثور في القواعد" (2 / 310): "الصريحُ لا يَحتاجُ إلى نيةٍ، وقد استشكل هذا بقولهم: يُشتَرط قصدُ حروفِ الطلاقِ لِمَعْنَى الطلاق؛ وعلى هذا فلا فرقَ بين الصريحِ والكناية، وقد تكلموا في وجه الجمع بكلامٍ كثيرٍ، وأقربُ ما يقال فيه: إن معنى قولهم: الصريح؛ لا يحتاج إلى نية؛ أيْ: نيةِ الإيقاع؛ لأن اللفظ موضوعٌ له فاستُغْنِىَ عن النية.
أما قصد اللفظ فيُشتَرطُ لتَخْرُجَ مسألةُ سبقِ اللسان، ومن هَا هُنا يَفْتَرِق الصريحُ والكناية، فالصريحُ يُشتَرطُ فيه أمرٌ واحدٌ؛ وهو قصدُ اللَّفظ، والكنايةُ يُشتَرطُ فيها أمرانِ: قصدُ اللفظ، ونيةُ الإيقاع، وينبغي أن يقال: أن يقصد حروف الطلاق للمعنى الموضوعِ له؛ لِيَخْرُجَ: أنتِ طالقٌ من وِثاق".
قال الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (1 / 293): "قاعدَةٌ: الصرِيحُ لا يَحتَاجُ إلى نِيَّةٍ، وَالْكِنايةُ لَا تَلْزَمُ إلَّا بنِيَّةٍ؛ أَمَّا الأَول: فَيُسْتَثْنَى مِنْهُ ما فِي الرَّوضَةِ وَأَصْلِهَا: أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ الْمُكرَهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فَوَجْهَانِ:
أَحَدُهما: لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ اللَّفظَ ساقِطٌ بِالإِكراهِ، وَالنِّيةُ لَا تَعْملُ وَحْدَها، وَالْأَصَح: يَقَعُ؛ لِقَصْدِهِ بِلَفظِهِ؛ وعلى هذا فَصَرِيحُ لَفْظ الطَّلَاقِ - عِنْد الإِكراهِ - كِنَايَةٌ؛ إنْ نَوَى وَقَعَ، وَإِلَّا فَلَا.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَاسْتَثْنَى مِنْهُ ابْنُ الْقَاصِّ صُورَةً، وَهِيَ: مَا إذَا قِيلَ لَهُ: طَلَقَتْ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ: يَلْزَمهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا، وَقِيلَ: يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ".
والحاصلُ: أنه لا يمكنُ نفيُ الطلاقِ الصَّريحِ بعدَ التلفُّظ به إلَّا أن يكونَ الشَّخصُ مُكرهًا عليه، مغلقَ العقلِ بسُكْر، أو غضبٍ شديدٍ، أو ذُهُولٍ عن اللفظ، أو عدمِ قصدٍ للفظِ أصلًا؛ كما سَبَقَ بيانُ معنى ذلك في النُّقول، وليس فيما استثناه العلماءُ المسألة التي ذكرتَها.
والله أسأل أن يفقهنا في الدين، وأن يهدينا لما اختلف فيه مِن الحق بإذنه
آمين