السؤال
أتعامَل مع رئيسي في العمل، وهو مُصاب بفيروس الكبِد الوبائي، ونحن نتبادَل أوراق العمل، لكن - للأسف - لدى هذا المدير عادة سيئة؛ وهي أنه يضع أصابعه في فمه عند مَسْك الأوراق؛ مما يجعل الورق مُبلَّلًا باللعاب، وأضطر إلى أن أمسكَ الأوراق والأدوات بعده، فماذا أفعل؟
شفى الله كلَّ مريضٍ.
الجواب
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فإذا ثبتَ أنَّ هذا الشخصَ مُصابٌ بمرضٍ مُعْدٍ، ينتقلُ عن طريق اللُّعَاب أو غيره، فيجب عليك أن تحتاطَ لنفسك، وأن تُعلِمَه بطريقةٍ غير مباشرة، أو أن ترتديَ قفَّازًا مثلًا؛ حتى لا تلامسَ هذه الأدوات بصورةٍ مباشرة، وذلك حِفاظًا على صحتك، فإنَّ حِفْظَ النفس مِن مَقاصد الشريعة؛ وقد رُوِيَ في الصحيحين: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يُورِدنَّ ممرضٌ على مُصِحٍّ))، وما رواه البخاري: ((فرَّ مِن المجذومِ كما تفرُّ مِن الأسد)).
قال ابن القيم في "إعلام الموقِّعين" (3 / 152): " الوجه الرابع والسبعون: أنه نهى أن يُورِد مُمرِضٌ على مُصِحٍّ؛ لأن ذلك قد يكون ذريعةً إما إلى إعدائه، وإما إلى تأذيه بالتوهم والخوف، وذلك سبب إلى إصابة المكروه له".
وقال في "زاد المعاد": "إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع التحرُّز من الأدواء المُعْدِية بطبعها، وأرشد الأصحَّاء إلى مجانَبة أهلها"؛ انتهى.
قال ابن حجَر في "الفتح": "وقوله: ((لا يُورِد)): سبب النهي عن الإيراد؛ خشية الوقوع في اعتقاد العَدْوَى، أو خشية تأثير الأوهام؛ كما تقدَّم نظيره في حديث: ((فرَّ من المجذوم))؛ لأن الذي لا يعتقد أن الجُذَام يُعدِي يجد في نفسه نفرةً، حتى لو أكرهها على القرب منه، لتألمت بذلك، فالأولى بالعاقل ألَّا يتعرَّض لمثل ذلك، بل يُباعد أسباب الآلام، ويجانب طرُق الأَوْهام، والله أعلم"؛ اهـ.
وما رُوِيَ في الصحيحين، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا عَدْوَى ولا صَفَر، ولا هامة))، فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال الإبل تكون في الرَّمل كأنها الظِّباء، فيخالطها البَعِير الأجربُ فيُجْرِبُها؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فمَن أعدى الأول؟))؛ يعني: أن المرض نزل على الأول بدون عَدْوَى، بل نزل مِن عند الله - عز وجل - فكذلك إذا انتقل بالعَدْوَى، فقد انتقل بأمرِ الله؛ فلا مُخالفة فيه للأحاديث السابقة، وقد جمع أهل العلم بينهما، واختلفوا في هذا الجَمْع على أقوال كثيرةٍ، وأحسن ما قيل فيه هو: أن الأمراض لا تُعْدِي بطبْعِها؛ بل الله هو الذي يجعلها سببًا لما ينجرُّ عنها من الإصابة والانتقال.
قال ابن حجَر في "فتح الباري" - ضمن ما ذكره في الجمع بين الأحاديث -:
"المراد بنفي العَدْوَى أن شيئًا لا يُعدِي بطبعه؛ نفيًا لما كانت الجاهلية تعتقده؛ أن الأمراض تُعدِي بطبعِها مِن غير إضافة إلى الله، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقادَهم ذلك، وأكل مع المجذوم؛ ليبيِّنَ لهم أن الله هو الذي يُمرِض ويَشفِي، ونهاهم عن الدنو منه؛ ليبينَ لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تُفضِي إلى مسبباتها؛ ففي نهيِه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل، بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثر شيئًا، وإن شاء أبقاها فأثرتْ"؛ اهـ.
قال ابن القيم في حاشيتِه على سنن أبي داود (10 / 289):
"ذهب بعضهم إلى أن قوله: ((لا يُورِد مُمرِضٌ على مُصِحٍّ)): منسوخ بقوله: ((لا عَدْوَى))؛ وهذا غير صحيح، وهو مما تقدِّم آنفًا أن المنهيَّ عنه نوعٌ غير المأذون فيه؛ فإن الذي نفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ((لا عَدْوَى ولا صَفَر))، هو ما كان عليه أهل الإشراك من اعتقادِهم ثبوت ذلك على قياس شركهم، وقاعدة كفرهم.
والذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من إيرادِ المُمرِض على المُصِحِّ فيه تأويلان:
أحدهما: خشية توريط النفوس في نسبة ما عسى أن يقدِّره الله تعالى من ذلك إلى العدوى، وفيه التشويش على مَن يُورَد عليه، وتعريضه لاعتقاد العَدْوَى، فلا تنافي بينهما بحال.
والتأويل الثاني: أن هذا إنما يدلُّ على أن إيرادَ المُمرِض على المُصِحِّ قد يكون سببًا يخلق الله تعالى به فيه المرض، فيكون إيراده سببًا، وقد يصرف الله - سبحانه - تأثيره بأسباب تضاده، أو تمنعه قوة السببية، وهذا محضُ التوحيد، بخلاف ما كان عليه أهلُ الشِّرك.
وهذا نظيرُ نفيه - سبحانه - الشفاعة في يوم القيامة بقوله: ﴿ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾ [البقرة: 254]؛ فإنه لا تُضادُّ الأحاديثَ المتواترةَ المصرِّحةَ بإثباتها؛ فإنه - سبحانه - إنما نفى الشفاعةَ التي كان أهلُ الشرك يثبتونها؛ وهي شفاعةٌ يتقدَّم فيها الشافعُ بين يدي المشفوع عنده، وإن لم يأذنْ له، وأما التي أثبتها الله ورسوله؛ فهي الشفاعة التي تكون من بعد إذنه؛ كقوله: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة: 255]، وقولِهِ: ﴿ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ﴾ [الأنبياء: 28]، وقوله: ﴿ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ [سبأ: 23]، والله الموفِّق للصواب؛ انتهى.
قال ابن العثيمين في لقاءات الباب المفتوح (135 / 17):
"فصاحبُ المرض المُعْدِي لا تجالسه، اتركه؛ ولهذا قال العلماء: يجب على وليِّ الأمر أن يحصر الجُذَمَاء - الذين أُصيبوا بالجُذَام - في مكانٍ خاصٍّ، لا يتصل الناس بهم، ولا يتصلون بالناس؛ خوفًا من العَدْوَى، لكن قول الرسول: ((لا عَدْوَى ولا طِيَرة))، هذا نفي لما كانوا يعتقدونه في الجاهلية من أن العَدْوَى لا بدَّ أن تكون، وأنها فاعلةٌ على كل حال؛ بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال: ((لا عَدْوَى ولا طِيَرة))، أورد عليه أعرابيٌّ إشكالًا، فقال: يا رسول الله، الإبل تكون في الرَّمْل كالظِّباء - يعني: ليس فيها أي شيء - فيخالطها الأجرب، فتجرب؟ وهذه ماذا؟ هذه عَدْوَى؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - له: ((مَن أعدى الأول؟))؛ معناها: مَن الذي جعل الجرب في الأول بدون أن يخالطَ الجرباء؟ إنه الله، فالذي نقل العَدْوَى مِن هذا المريض إلى الصحيح هو الله - عز وجل - وليس هي العَدْوَى نفسها، فالنفي: لتأثير العدوى بنفسها، والإثبات: لإثبات أن العَدْوَى مِن الله - عز وجل؛ ولهذا جاء في الحديث: (لا يُورِد مُمرِض على مُصِحٍّ))، وهذه أعمُّ؛ يعني: أن مَن له إبل مريضة، أو غنم مريضة، فلا يُورِدها على الصحيحةِ؛ لأنَّ ذلك من أسباب انتقال المرض إلى الصحيحِ، فهمتَ الآن؟ النفي معناه العَدْوَى لا تُؤثِّر بنفسها - كما يعتقده أهلُ الجاهلية - والأمر بالفرار من المجذوم - وكذلك كل مريض مرضه مُعْدٍ - من باب توقي الأسباب الضارة"؛ انتهى.
وفَّقك الله لكل خيرٍ