السؤال
سخرتُ مِن شعيرة من شعائر الدين؛ وذلك لزحمة الحُجَّاج في موسم الحج؛ فقلتُ بسخريةٍ: ربما يجعلون حجًّا له موسمان؛ كي يَخِفَّ الزحام، وربما يطوف أناسٌ ستَّةَ أو خمسةَ أشواط بدل سبعة، وهذه سخريةٌ مني!
فماذا يجب عليَّ؟ علمًا بأني قَرَأْتُ الشهادة بعدها.
الجواب
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعدُ:
فإن الاستخفاف أو الاستهزاء بالدين محض كفرٍ؛ لما فيه من التنقُّص، أو الطعن في حكمة الشارع، أو غير ذلك؛ قال الله تعالى: ﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ [التوبة: 64 - 66].
أما ما يجب على مَن وقَع في الاستهزاء بشريعة مِن الشرائع، فالتوبة النصوح التي يمحو الله بها الخطايا، فلا بُدَّ فيها من شروطٍ وهي:
1- الإقلاع على الفور، والمبادَرة بالتوبة والاستغفار.
2- الندم على ما فعل.
3- والعزم الجازم على عدم العود أبدًا؛ تعظيمًا لله سبحانه، وإخلاصًا له، وحذرًا من عقابه.
فالعبدُ إذا أذنب ثم تاب من ذنوبه وصدق في توبته، فإنَّ الله يقبل توبته؛ كما قال عز وجل: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 104]، وقال أيضًا: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ﴾ [الشورى: 25]، وقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82].
وهذا شاملٌ لجميع الذنوب حتى الكُفْر والشِّرك إذا تاب صاحبُه واستغفر وأصلح عفا الله عنه ما سلف وتاب عليه، ولا بد مِن أن يثق العبد في ذلك؛ لأنَّ وعد الله لا يُخلَف، وذنوب العباد وإن عظمتْ فإن عفو الله ومغفرته أعظم منها وأعظم، فهي ليست شيئًا في جنب عفْوِ الله ومغفرته، فطوبى لمن رجع إلى ربه نادمًا متحسرًا تائبًا.
قال ابن القيم في "مدارج السالكين": "فالتوبةُ في كلام الله ورسوله تتضمن العزْمَ على فعل المأمور والتزامه، فلا يكون بمجرد الإقلاع والعزم والندم تائبًا، حتى يوجد منه العزم الجازم على فعل المأمور والإتيان به، هذا حقيقة التوبة، وهي اسمٌ لمجموع الأمرين، وهي كلفظة التقوى التي تقتضي عند إفرادها فِعْل ما أمر الله به، وترْك ما نهى الله عنه، وتقتضي عند اقترانها بفعل المأمور الانتهاء عن المحظور؛ فإن حقيقة التوبة الرجوع إلى الله بالتزام فِعْل ما يحب، وتَرْك ما يكره؛ فالرجوع إلى المحبوب جزء مسماها والرجوع عن المكروه الجزء الآخر، ولهذا علق سبحانه الفلاح المطلق على فعل المأمور وترك المحظور بها؛ فقال: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، فكل تائبٍ مفلحٌ ولا يكون مفلحًا إلا مَن فَعَل ما أُمِر به، وتَرَك ما نُهي عنه، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11]، وتارك المأمور ظالمٌ كما أن فاعل المحظور ظالم، وزوال اسم الظلم عنه إنما يكون بالتوبة الجامعة للأمرين.
فإذًا التوبة هي حقيقة دين الإسلام، والدين كله داخلٌ في مسمى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله؛ فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان، وتتناول جميع المقامات، ولهذا كانت غاية كل مؤمن وبداية الأمر وخاتمته، وهي الغاية التي وجد لأجلها الخلق والأمر، والتوحيد جزء منها بل هو جزؤها الأعظم الذي عليه بناؤها، ولم يجعل الله تعالى محبته للتوابين إلا وهم خواص الخلق لديه" اهـ مختصرًا.
هذا، وقد بَيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية ما تندفع به الذنوب، فقال:
"والمؤمنُ إذا فعل سيئةً فإنَّ عقوبتها تندفع عنه بعشرة أسبابٍ:
أن يتوب فيتوب الله عليه؛ فإن التائب مِن الذنب كمَن لا ذنب له، أو يستغفر فيغفر له أو يعمل حسناتٍ تمحوها، فإن الحسنات يذهبن السيئات، أو يدعو له إخوانه المؤمنون ويستغفرون له حيًّا وميتًا، أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به، أو يشفع فيه نبيه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم، أو يبتليه الله تعالى في الدنيا بمصائب تكفِّر عنه، أو يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه، أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه، أو يرحمه أرحم الراحمين، فمَنْ أخطأتْه هذه العشرة فلا يَلُومَنَّ إلا نفسه؛ كما قال تعالى فيما يروي عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمَن وجد خيرًا فليحمد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)) انتهى.
ومما يعين على التوبة:
- الإكثار من الحسنات؛ فإن الحسنات يُذهبن السيئات، ومن ذلك كثرة الاستغفار والنوافل والذكر والدعاء.
- البُعد عن دواعي المعصية وأسبابها كمفارقة موضع المعصية، ومفارقة قرناء السوء.
- مرافقة الأخيار والصالحين.
ونسأل الله أن يوفقنا وإياك وجميع المسلمين للتوبة النصوح، آمين