السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حياكم الله تعالى، وجَعَلني وإياكم ممن يدخلون الجنةَ بغير حسابٍ.
أنا شابٌّ متزوج، ولديَّ أولاد، ومُحافِظٌ على الصلوات، والفضل كله لله - تبارك وتعالى، تكمن في تعلقي بالحديث مع النساء، ولا أدري ما السبب؟
حاولتُ مرارًا ترْكَ ذلك، لكني لم أستطعْ، وكلما دخلتُ شبكة الإنترنت - وخاصة الفيسبوك - أتعرف إلى أشخاصٍ من شتى الدول، وسرعان ما أجد ميلًا في حديثي مع النساء في أمورٍ عامة.
فكيف أتخلَّص مِن هذا الكابوس؟
الجواب
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أما بعدُ:
فما تقع فيه - أخي الكريم - ولا تعرف سببه، هو شيءٌ مَرْكوزٌ في النفس، وهو ميلُ الرجل للمرأة؛ وقد غرسه الله فينا لحكمةٍ بالغةٍ، وهي: بقاء الجنس البشري، كباقي القوى الغريزية في الإنسان، ولكن ليس معنى ذلك التمادي معها دون ضوابط شرعيَّة، بل إنَّ الله تعالى لعِلْمِه بتلك القوى الشهوانية في الإنسان أغْلَقَ عليه أبواب الحرام سدًّا لذريعة الشرِّ، فحَرَّم سبحانه الخُلْوَةَ بالأجنبيَّةِ، والحديثَ معها إلا لحاجةٍ أو ضرورةٍ، وأَوْجَبَ على المُكَلَّفين تهذيبَ أنفسهم، والاحتراز مِن المحظور، ومُجاهَدةَ النفس، وأخْذَها بالقوة وترويضها، وفطمها عن تلك الصفات المُحَرَّمةِ؛ وحَذَّرنا سبحانه أنَّ كل مَن ترَك نفسه وقَع في الحرام، فيأثم.
ولهذا فقَطْعُ الطريق على النفس هو أَسْلَمُ الحلول؛ لأنك لا تأمن إن تمادَيْتَ وتحدَّثْتَ مع أصحاب الصور الجميلة فستميل نفسك إليها، فإن لم تتمكنْ منها؛ لتحريم الشارع، أو لعجزك عنها - عذَّبْتَ قلبك، وإن قدرْتَ عليها وفعلتَ مِن المحظور ما تستطيعه، أهْلَكْتَ نفسك!
وقد ذكَر شيخَا الإسلام ابن تيميَّة وابن القَيِّم أنَّ فتنةَ الشهوات التي منها الحديث مع الفتيات تدْفَع بكمال العقل والصبر، وأنَّ فتنة الشبُهات تدفع بكمال البصيرة واليقين؛ ولذلك جعل - سبحانه - إمامةَ الدين مَنُوطةً بهذَيْنِ الأمرَيْنِ؛ فقال: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24]، وقال سبحانه: ﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 3]؛ فتواصوا بالحق الذى يدفع الشبهات، وبالصبر الذى يكفُّ عن الشهوات، وجمع بينهما في قوله: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ﴾ [ص: 45].
فالأيدي: القوى والعزائم في ذات الله، والأبصار: البصائر في أمر الله؛ كما في إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/ 167).
فجاهِدْ نفسك، ولا تتعرَّض للفِتَن؛ حتى لا يكلك الله إلى نفسك؛ "... فإنَّ الصبرَ مع القدرة جهادٌ؛ بل هو أفضل مِن الجهاد وأكمل مِن ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن الصبر عن المُحَرَّمات أفضل من الصبر على المصائب.
الثاني: أنَّ ترْكَ المُحَرَّمات مع القدرة عليها وطلب النفس لها أفضل مِن ترْكِها بدون ذلك.
الثالث: أنَّ طلَب النفس لها إذا كان بسبب أمرٍ ديني - كمَن خرج لصلاةٍ أو طلب علمٍ أو جهادٍ، فابْتُلِي بما يميل إليه مِن ذلك، فإنَّ صبرَه عن ذلك يتضمن فِعْلَ المأمور، وترْكَ المحظور؛ بخلاف ما إذا مالتْ نفسه إلى ذلك بدون عملٍ صالحٍ؛ ولهذا كان يونس بن عبيدٍ يوصي بثلاثٍ يقول: لا تدخل على سلطانٍ، وإن قلت: آمره بطاعة الله، ولا تدخل على امرأةٍ، وإن قلت: أُعَلِّمها كتاب الله، ولا تصغ أذنك إلى صاحب بدعةٍ، وإن قلت: أرد عليه، فأَمَرَهُ بالاحتراز من أسباب الفتنة؛ فإن الإنسان إذا تعرَّض لذلك فقد يُفتتن، ولا يَسْلم، فإذا قدر أنه ابتلي بذلك بغير اختياره، أو دخل فيه باختياره وابتلي، فعليه أن يتقي الله، ويصبر، ويُخلص، ويُجاهِد.
وصبرُه على ذلك وسلامته مع قيامه بالواجب من أفضل الأعمال؛ كمن تولى ولايةً وعدل فيها، أو رَدَّ على أصحاب البِدَع بالسنة المحْضَة، ولم يفتنوه، أو علم النساء الدين على الوجه المشروع مِن غير فتنةٍ، لكن الله إذا ابتلى العبد، وقدَّر عليه، أعانه، وإذا تعرض العبد بنفسه إلى البلاء، وكله الله إلى نفسِه؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن سمرة: ((لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألةٍ وُكِلْتَ إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألةٍ، أُعِنْتَ عليها))، وكذلك قال في الطاعون: ((إذا وقع ببلد وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه، وإذا سمعتم به بأرضٍ، فلا تقدموا عليه))، فمن فعل ما أمره الله به، فعرضت له فتنةٌ من غير اختياره، فإن الله يُعينه عليها؛ بخلاف من تعرض لها.
لكن باب التوبة مفتوحٌ؛ فإنَّ الرجل قد يسأل الإمارة فيوكل إليها، ثم يندم فيتوب من سؤاله، فيتوب الله عليه ويُعينه؛ إما على إقامة الواجب، وإما على الخلاص منها، وكذلك سائر الفتن؛ كما قال: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ﴾ [الزمر: 53]". اهـ من "مجموع الفتاوى" (10/ 576 - 578).
أخيرًا، أنصحك باقتناء كتاب: "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين"؛ للإمام ابن القيم، وكتاب: "الأخلاق والسير في مداواة النفوس"؛ للإمام أبي محمد بن حزم الأندلسي، ففي القراءة فيهما غنيةٌ عن مواقع التواصُل الاجتماعي.
وفقنا الله وإياك لكل خيرٍ