قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء ) رواه البخاري. ألا يمكننا تأويل هذا الحديث، أو البحث عن مخرج لأن الحمى تحدث لأسباب طبية، وهذه هي الحقيقة. فكيف يكون من فيح جهنم، وهذا فيه خلاف لظاهر النص؟ وهل يمكن أن ندخل حديث: إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر. في الموضوع ؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالواجب على المسلم إذا بلغه الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسلم له، وأن يحمل الحديث على أحسن المحامل، وإن لم يدركها عقله.
قال علي بن أبي طالب، وابن مسعود -رضي الله عنهما -: إذا حدثتكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فظنوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي هو أهناه، وأهداه، وأتقاه . أخرجه ابن ماجه.
ولا ينبغي لمؤمن أن يشكك في حديث نبوي لعدم فهمه له. ومن المعلوم عند كل مؤمن أن خبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل فيه الخطأ، ولا يمكن أن يخالف الواقع. فحديث النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي، كما قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {النجم:4،3}. أخرج الخطيب في الكفاية عن حسان بن عطية, قال: كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن, يعلمه إياها كما يعلمه القرآن .
وأما ما يتعلق بمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: إن الحمى من فيح جهنم، فابرُدوها بالماء.
فيقول ابن القيم : فيه وجهان:
أحدهما: أن ذلك أنموذج، ورقيقة اشتقت من جهنم ليستدل بها العباد عليها، ويعتبروا بها، ثم إن الله سبحانه قدر ظهورها بأسباب تقتضيها،؛ كما أن الروح، والفرح والسرور، واللذة من نعيم الجنة أظهرها الله في هذه الدار عبرة ودلالة، وقدر ظهورها بأسباب توجبها.
والثاني: أن يكون المراد التشبيه، فشبه شدة الحمى ولهبها بفيح جهنم، وشبه شدة الحر به أيضا، تنبيها للنفوس على شدة عذاب النار، وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهة بفيحها، وهو ما يصيب من قرب منها من حرها. اهـ.
وقال ابن حجر: واختلف في نسبتها إلى جهنم فقيل: حقيقة، واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من جهنم، وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك، كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة أظهرها في هذه الدار عبرة ودلالة. وقد جاء في حديث أخرجه البزار من حديث عائشة بسند حسن، وفي الباب عن أبي أمامة عند أحمد، وعن أبي ريحانة عند الطبراني، وعن ابن مسعود في مسند الشهاب: الحمى حظ المؤمن من النار. وهذا كما تقدم في حديث الأمر بالإبراد أن شدة الحر من فيح جهنم، وأن الله أذن لها بنفسين. وقيل: بل الخبر ورد مورد التشبيه، والمعنى أن حر الحمى شبيه بحر جهنم تنبيها للنفوس على شدة حر النار، وأن هذه الحرارة الشديدة شبيهة بفيحها، وهو ما يصيب من قرب منها من حرها، كما قيل بذلك في حديث الإبراد، والأول أولى. والله أعلم . اهـ.
فعلى القول بأن الحديث على ظاهره، فلا ينافي ذلك أن يكون وقوع الحمى بأسباب حسية، كما بينه ابن القيم، وابن حجر . وهذا الأمر وإن كان يصعب على العقل تصوره، إلا أنه ليس بمحال، والشرائع تخبر بما تحار فيه العقول.
قال شيخ الإسلام: الأنبياء - عليهم السلام - قد يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته، لا بما يعلم العقل بطلانه، فيخبرون بمحارات العقول، لا بمحالات العقول. اهـ.
أما حديث: إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر.
فيحسن هنا أن ننقل كلاما نفيسا في بيان معنى هذا الحديث للشيخ المعلمي، يقول فيه: وذكر قصة التأبير، فدونك تحقيقها: أخرج مسلم في صحيحه من حديث طلحة قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل فقال: (ما يصنع هؤلاء)؟ فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى، فيلقح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أظن يغني ذلك شيئاً). قال: فأخبروا بذلك، فتركوه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: ( إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل). ثم أخرجه عن رافع بن خديج وفيه (فقال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً. فتركوه فنقصت .. فقال: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر. قال عكرمة: أو نحوهذا) ثم أخرجه عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وعن ثابت عن أنس .. .) وفيه: (فقال: لو لم تفلعوا لصلح ) وقال في آخره: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) .
عادة مسلم أن يرتب روايات الحديث بحسب قوتها: يقدم الأصح فالأصح . قوله صلى الله عليه وسلم في حديث طلحة : (ما أظن يغني ذلك شيئاً )، إخبار عن ظنه، وكذلك كان ظنه، فالخبر صدق قطعاً، وخطأ الظن ليس كذباً، وفي معناه قوله في حديث رافع: (لعلكم .. .) . وذلك كما أشار إليه مسلم أصح مما في رواية حماد؛ لأن حماداً كان يخطئ . وقوله في حديث طلحة: (فإني لن أكذب على الله ) فيه دليل على امتناع أن يكذب على الله خطأ، لأن السياق في احتمال الخطأ، وامتناعه عمداً معلوم من باب أولى، بل كان معلوماً عندهم قطعاً. اهـ.
فإذا تبين معنى هذا الحديث؛ فلا مجال للاستدلال به في رد حديث: ( الحمى من فيح جهنم ). فإنه خبر من النبي صلى الله عليه وسلم، وأخباره لا مجال للخطأ فيها، وليس هذا الحديث رأيا من لدنه صلى الله عليه وسلم .
والله أعلم.