حول قوله تعالى: [مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ]
الكاتب: الأستاذ./ عبد الرحيم الشريف
الشبهة:
يقولون: عندما يقول القرآن الكريم: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ) [الرحمن: 19، 20] أليست هذه الحقيقة ظاهرة طبيعية معروفة لدى كل صياد بسيط يصيد في نهر عذب يصبّ ماءه في بحر مالح؟ لقد قام محمد برحلات تجارية في خدمة خديجة، وسافر حتى حلب شمالي دمشق، ولعله في رحلةٍ من هذه ذهب إلى ساحل سوريا أو لبنان، وسمع من بحّار عن عدم امتزاج الماءين المالح والعذب.
وهل إذا صدق الإعجاز في النصف الأول من الآية يَصْدق أيضاً في النصف الثاني منها، والذي يقول: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) يريد أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان منهما أي: من العذب والمالح، وهو ما يخالف الحقائق العلمية؟ (مَرَج البحريْن يلتقيان، بينهما برْزخٌ لا يبغِيان، فبأيِّ آلاء ربكما تكذّبان، يخرج منهما اللؤلؤ والمَرْجان) [الرحمن: 19- 23] وقال: (ومن كلٍ تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حِلْيةً تلبسونها) [فاطر: 12].
أأخطأ القرآن في تقرير أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من الماء المالح لا من العذب، ثم يقرر أنهما يخرجان من الاثنين معاً يخرج منهما أي العذب والمالح، وفي آية فاطر قرر نفس المعنى إذ قال: (ومن كلٍ) أي: من البحرين (تأكلون لحماً طرياً) وهذا صواب، لكنه أضاف (وتستخرجون حِلْيةً تلبسونها أي اللؤلؤ والمرجان).
الإجابة
نقول وبالله تعالى التوفيق: لقد حار المفسرون في توجيه الآية الكريمة، فالقدماء لا يعلمون اللؤلؤ والمرجان إلا في البحار المالحة، لكن تبيَّن بعد اكتشاف أراضٍ جديدة، وجود اللؤلؤ والمرجان وتبر الذهب - الحُليّ - في رواسب جداول وأنهار وبحيرات عذبة في أمريكا وشمال أوروبا، وهذا من شواهد الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، ودليل ربانية مصدره وسبحان منزل القرآن!
والآن نأتي إلى آية سورة فاطر: (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) [الآية: 12]. ولسوف أتناولها من زاوية أخرى، لقد قرأتُ هذه الآية مرات لا تحصى، لكني لم أكن ألتفت إلى ما تؤكده من أن الحلي تُسْتَخْرَج من البحر والنهر كليهما، بل كنت أتصور أن اللؤلؤ والمرجان لا يوجدان إلا في البحار الِمالْحة، ومنذ عدة سنوات كنت أقرأ هذه الآية، وفجأة تنبهتُ لما كان غائبا عني، فتساءلت: هل توجد الحلي حقا في مياه الأنهار كما هي موجودة في البحار؟ وقد رجعتُ يومها إلى ترجمة عبد الله يوسف علي للقرآن إلى الإنجليزية، فألفيتُه، في تعليقه على هذه الآية في الهامش، يذكر من أنواع الحلي النهري العقيقَ وبرادةَ الذهب وغيرهما، ثم رجعتُ بعد ذلك إلى "Encyclopaedia Britannica" الطبعة الرابعة عشرة، فقرأتُ في مادة "Pearls" أن اللؤلؤ يوجد أيضا في المياه العذبة.
وبعد هذا وقع في يدي "المنتخَب في تفسير القرآن الكريم"، الذي أصدره المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر، فقرأتُ في التعليق العلمي الموجود بأسفل الصفحة على الآية المذكورة الكلام التالي الذي يبدو وكأنه كُتِب خصيصا لي: قد يستبعد بعض الناس أن تكون المياه العذبة مصدرًا للحلي، ولكن العلم والواقع أثبتا غير ذلك: أما اللؤلؤ فإنه، كما يُسْتَخْرَج من أنواع معينة من البحر، يُسْتَخْرَج أيضا من أنواع معينة أخرى من الأنهار، فتوجَد اللآلئ في المياه العذبة في إنجلترا وأسكتلندا وويلز وتشيكوسلوفاكيا واليابان... إلخ، بالإضافة إلى مصايد اللؤلؤ البحرية المشهورة، ويدخل في ذلك ما تحمله المياه العذبة من المعادن العالية الصلادة كالماس، الذي يُسْتَخْرَج من رواسب الأنهار الجافة المعروفة باليرقة، ويوجد الياقوت كذلك في الرواسب النهرية في موجوك بالقرب من بانالاس في بورما العليا، أما في سيام وفي سيلان فيوجد الياقوت غالبا في الرواسب النهرية، ومن الأحجار شبه الكريمة التي تُسْتَعْمَل في الزينة حجرُ التوباز، ويوجد في الرواسب النهرية في مواقعَ كثيرةٍ ومنتشرةٍ في البرازيل وروسيا - الأورال وسيبريا - وهو فلورسيليكات الألمونيوم، ويغلب أن يكون أصفرَ أو بُنّيًّا، والزيركون (circon) حَجَرٌ كريمٌ جذابٌ تتقارب خواصه من خواص الماس، ومعظم أنواعه الكريمة تُسْتَخْرَج من الرواسب النهرية".
ولكي يقدِّر القارئ رد فعلي الأول حق قدره أذكر أن بعض المترجمين الأوربيين أنفسهم في العصر الحديث قد استبعدوا أن تكون الأنهار مصدرًا من مصادر الحلي، وقد تجلَّى هذا في ترجمتهم لهذه الآية: فمثلا نرى رودويل الإنجليزي يترجم الجزء الخاص بالحلي منها هكذا: "yet from both ye eat fresh fish, and take forth ornaments to wear" فعبارة "from both" لا تعطي المعنى الموجود في الآية، وهو أن كلا من البحرين فيه حلي لا أن الحلي تستخرج منهما معا بما يمكن أن يكون معناه أنه يخرج من مجموعهما حتى لو لم يخرج في الواقع إلا من أحدهما، وهو ما قد يصلح لترجمة قوله تعالى في سورة الرحمن: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلؤُ وَالمَرْجَانُ) لاحظ: (منهما) لا من كل منهما كذلك ينقل رُودِي بارِيتْ المستشرق المعروف هذه العبارة إلى الألمانية على النحو التالي: "Aus beiden esst ihr frishes Fleish" إلى هنا والترجمة صحيحة، فهذه العبـارة تقابـل قوله تعالى: (ومن كلٍّ تأكلون لحمًا طريًّا) وإن استخـدم بارِيتْ في مقابل (طريـًّا) كلمة "frishes"،ومعناها الدقيق "طازج" لكن فلْننتبه لترجمة الجزء التالي الذي يقول فيه: "und (aus dem Salzmeer) gewinnt ihr Schmuck...um ihn eukh anzulegen"، والذي تَرْجَمَته: (وتستخرجون) - من البحر الملح - (حلية تلبسونها).
ويرى القارئ بوضوح كيف أن المترجم قد أضاف من عنده بين قوسين عبارة من البحر الملح: aus dem Salzmeer وهو ما يوحي باستبعاده أن تكون الأنهار مصدرا من مصادر اللؤلؤ والعقيق وغيرهما من أنواع الحلي على ما تقول الآية الكريمة، أما ترجمتا جورج سِيلْ وبَالمَْرْ الإنجليزيتان وترجمتا كازيمريسكي وماسون الفرنسيتان، وكذلك ترجمتا ماكس هننج ومولانا صدر الدين الألمانيتان على سبيل المثال، فقد ترجمت كلُّها النصَّ القرآني كما هو، لكنها التزمت الصمت فلم تعلق بشيء.
ويرى القارئ من هذه الآية كيف أن القرآن قبل أربعة عشر قرنا قد أشار إلى حقيقة علمية يستبعدها ناس مثلي، ومثل المستشرق الإنجليزي رودويل ونظيره الألماني رُودِي بارِيت ممن يعيشون في هذا العصر الذي بلغ فيه التقدم العلمي والتقني آمادا مذهلة، فكيف عرفها الرسول الكريم إذن وأدّاها بهذه البساطة لو كان هو مؤلف القرآن، وبخاصة أن الأنهار التي ذُكِر أن اللؤلؤ وغيره من الأحجار الكريمة وشبه الكريمة تُسْتَخْرَج منها تقع في بلاد سحيقة بالنسبة للجزيرة العربية، بل إن بعضها كالبرازيل مثلا لم يُكْتَشَف إلا في العصور الحديثة؟
ومن هنا نستطيع أن نفهم كيف أن المفسرين القدامى، كالطبري والقرطبي وابن كثير والجلالين على سبيل المثال، قد وقفوا حائرين إزاء هذه الآية وأمثالها حيث يقررون أن الحلي إنما تُسْتَخْرَج من البحر المِلْح فقط، وإن كان القرآن قد ذكر البحرين معا يريدون أن يقولوا: إن العرب كانت تغلّب في مثل هذه الحالة أحدَ الطرفين على الآخر بل إن بعضهم محاولةً منهم الالتصاقَ بالآية وعدم الرغبة في اللجوء إلى المجاز هنا قد قالوا: إن المقصود بالبحر العذب هو ماء المطر، بمعنى أن اللؤلؤ والمَرْجان لا يتم تكونهما إلا إذا نزل ماء المطر على صَدَفهما في البحر فانعقد لؤلؤا ومَرْجانا، وهذا كله خَبْطٌ خاطئ، فالمطر لا يُسَمَّى: بحرا، فضلا عن أن القرآن الكريم قد نَصَّ على أن الحُلِي تُسْتَخْرَج من كلٍّ من البحرين، لا من مجموعهما كما يقول مفسرونا القدامى، ولهم العذر رغم أنهم جاؤوا بعد الوحي بعِدّة قرون كانت الحضارة الإسلامية قد قطعت أثناءها أشواطا في مجال العلم والفكر فسيحة، إذ إن المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع لم تُكْشَف إلا في العصر الحديث كما بيّنّا في الفقرات الأخيرة.
وقد كانت هذه الحجة جاهزة في يدي في إحدى المناظرات التلفازية التي شاركتُ فيها منذ أعوام ضد من ينادون بإبعاد العلوم الطبيعية عن القرآن الكريم وعدم الاستعانة بها في تفسيره بشبهة أنه كتاب عقيدة وتشريع وأخلاق لا كتاب كيمياء أو فيزياء أو فلكٍ أو طبٍّ مثلا، إذ ها هم أولاء كبار المفسرين واللغويين يتجاهلون التركيب النحوي الواضح للعبارة القرآنية بسبب عدم توفر المادة العلمية بين أيديهم، فيعاملون تركيب (وَمِنْ كُلٍّ...) على أن المراد به: من مجموعهما، مع أن هذا غير ذاك تمامًا.
=====================
* موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.