هذا الإيمان العميق عند قاسم أمين بحضارة الغرب وقيمها وآدابها ليس أمرًا مستغربًا ولا مثيرًا للدهشة، بل هو الثمرة الطبيعية لثقافته الغربية البحتةفي مسألة الطلاق دعا إلى تقييد الطلاق بسلسلة من الإجراءات، واقترح أن يعتبر الطلاق غير صحيح إلا إذا وقع أمام القاضي, وتعدد الزوجات في نظره احتقار شديد للمرأة.
(1ديسمبر 1863- 23 أبريل 1908)
في شمال مصر وبالتحديد في مدينة الأسكندرية ولد قاسم أمين صاحب دعوة السفور وحامل لواء تجريد المرأة من حجابها في القرن العشرين.
ولد قاسم لأب تركي هو محمد بك أمين وأم مصرية من صعيد مصر, وكان والده قبل مجيئه لمصر بها واليا على إقليم "كردستان"،و كان بعض أجداده تولى على السليمانية (وهي مدينة عراقية كردية في معظمها) من قبل السلطان العثماني، فلما نزحوا إلى مصر ظن بعض من كتبوا عنه أنه كردي الأصل.
تلقى قاسم تعليمه الابتدائي بمدرسة "رأس التين" التي كانت تضم أبناء الطبقة الأرستقراطية, فنشأ بعيداً عن كفاح أبناء الشعب المصري وبعيداً عن أجواء الطبقة الوسطى والدنيا وهما تمثلان الغالبية الساحقة من الشعب بل تمثلان في الغالب ثقافة الشعب المصري عبر العصور.
ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، وسكن في حي "الحلمية" الأرستقراطي، وحصل على التجهيزية (الثانوية العامة)، ثم التحق بمدرسة الحقوق والإدارة، ومنها حصل على "الليسانس" سنة (1299هـ - 1881م) وكان أول متخرجيها.
اشتغل بالمحاماة لفترة لم تطل ثم سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا، وهناك انتظم في جامعة مونبلييه، وبعد دراسة استمرت أربع سنوات أنهى دراسته القانونية بتفوق سنة (1303هـ- 1885م).
كانت له صلات قديمة بجمال الدين الأفغاني ومدرسته جدد هذه الصلات أثناء وجوده بفرنسا, والتي التقى فيها بالشيخ محمد عبده بل كان مترجمه الخاص في باريس.
بدأ قاسم حياته قاضياً ثم تبنى الرجل قضيته التي كرس لها حياته وهي تحرير المرأة.
يقول بسطامي محمد سعيد في مفهوم تجديد الدين: القضية الأساسية التي نذر لها قاسم أمين (1863- 1908م) حياته هي قضية المرأة، فقد أراد لها أن تتحرر من قيودها الماضية وتقتدي بالمرأة الغربية، وقد كان ذلك هو محور آرائه في كتابيه (تحرير المرأة) و (المرأة الجديدة)، فقد أعلن بلا مداراة أن التمسك بالماضي هو من الأهواء التي يجب أن ينهض الجميع لمحاربتها، لأنه ميل بجر إلى التدني والتقهقر، وأنه هو الداء الذي تلزم المبادرة إلى علاجه، وليس له من دواء إلا معرفة شئون المدنية الغربية، والوقوف على أصولها وفروعها وآثارها. وهو مؤمن أن الغربيين قد وصلوا إلى درجة رفيعة من الأدب والتربية مثل ما أنهم متقدمون في العلوم والصنائع.
ومسألة حقوق المرأة وحريتها عند الغرب ليست في نظره مجرد عادة اجتماعية بل هي مسألة علمية، والحقيقة أنهم درسوها- كما يقول- درسًا تامًّا كغيرها من المسائل الاجتماعية، إذ يصعب على العقل أن يظن أن علماءهم الذين يجهدون أنفسهم في اكتشاف أسرار الطبيعة يغفلون عن هذه المسألة أو يهملونها، وهذا هو السبب الذي جعله يضرب الأمثال بالأوروبيين ويشيد بتقليدهم، وحمله على أن يستلفت الأنظار إلى المرأة الأوروبية؛ لأن المدنية الإسلامية (ولا يقول الدين الإسلامي) أخطأت في فهم طبيعة المرأة وتقدير شأنها.
وهذا الإيمان العميق عند قاسم أمين بحضارة الغرب وقيمها وآدابها ليس أمرًا مستغربًا ولا مثيرًا للدهشة، بل هو الثمرة الطبيعية لثقافته الغربية البحتة، ودراساته في فرنسا، ولكن الأمر الذي يستلفت النظر هو أنه دعا المرأة المسلمة لأن تقلد المرأة الغربية في كل شئون حياتها، وحبَّذ لها أن إسلامها ودينها لا يعارض هذا التقليد. ومع أنه يعترف بقلة بضاعته في الثقافة الإسلامية، وأنه قليل الإطلاع على ما كتبه المسلمون، قصير الباع في علومهم، ومع
أنه يقول عن نفسه: "لست أحب الخوض في حديث عن الدين لأسباب تتعلق بطبيعتي الخاصة، وبحرصي على مراعاة اللياقة العامة".
وكلنا يفهم مغزى هذا الاعتراف، إلا أنه مع ذلك ناقش أمهات المسائل الدينية الخاصة بالمرأة من الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات وتعليم المرأة وعملها، وكانت المهمة الصعبة أمامه هي أن يوفق بين الآراء الغربية وبين الشريعة.
وقد فعل ذلك ببساطة تثير العجب باستخدام مبدأين مفضلين لدى العصرانيين:
المبدأ الأول: أنه يرى أن أحكام الشرع في هذه المسائل ليست أحكامًا ثابتة، بل هي أحكام متغيرة مع الزمان والمكان، ويشرح ذلك في هذه العبارة:
"الشريعة الإسلامية إنما هي كليات وحدود عامة، ولو كانت تعرضت إلى تقرير جزئيات الأحكام لَمَا حُقَّ لها أن تكون شرعًا يمكن أن يجد فيه كل زمان وكل أمة ما يوافق مصالحهما"
ثم يقول: "فالأحكام المبنية على ما يجري من العوائد والمعاملات فهي قابلة للتغيير على حسب الأحوال والأزمان، فتبين لنا من ذلك أن لنا في مأكلنا ومشربنا وجميع شؤون حياتنا العمومية والخصوصية في أن نتخير ما يليق بنا، ويتفق مع مصالحنا بشرط ألا نخرج عن تلك الحدود العامة".
واستنادًا إلى هذا المبدأ الواسع الفضفاض يرى أن الإسلام يمكن أن يتلاءم ببساطة مع كل التطورات،
ويقول: "مع أنه من المهم أن نلتفت إلى التمدن الإسلامي القديم، ونرجع إليه، ونقف على ظواهره وخفاياه لأنه يحتوي على كثير من أصول حالتنا الحاضرة، ولكن من الخطأ أن ننسخ منه صورة ونحتذي مثال ما كان فيه سواء بسواء؛ لأن كثيرًا من ظواهر هذا التمدين لا يمكن أن يدخل في نظام معيشتنا الحالية".
والمبدأ الثاني: الذي يستخدمه قاسم أمين هو "أن أقوال النبي لا تشكل كلها جزءًا من الدين، فمن الطبيعي أن نُنَحِّيَ من هذه الأقوال تلك المحادثات الأليفة والنصائح الخلقية والحكم الفلسفية التي لا تشكل التزامات وواجبات دينية، كما يجب أن ننحي أيضًا كل ما لا علاقة له بالفقه والتشريع، وتبقى بعد ذلك الأحاديث القليلة التي تفسر أو تكمل التوجيهات التي يتضمنها القرآن الكريم، بعد تحقق جاد من روايتها، أو بملاحظة مطابقتها مع نص القرآن أو روحه".
وتحت مظلة هذين المبدئين دعا المرأة إلى ترك الحجاب؛ "لأن الكل متفقون على أن حجاب النساء هو سبب انحطاط الشرق، وأن عدم الحجاب هو السر في تقدم الغرب". ودعا إلى الاختلاط؛ (لأن نساء العرب ونساء القرى المصرية مع اختلاطهن بالرجال على ما يشبه الاختلاط في أوروبا تقريبًا أقل ميلاً للفساد من ساكنات المدن اللائي لا يمنعهن الحجاب عن مطاوعة الشهوات والانغماس في المفاسد، وهذا مما يحمل على الاعتقاد بأن المرأة التي تخالط الرجال تكون أبعد عن الأفكار السيئة عن المرأة المحجوبة). ودعا إلى تعليم وعمل المرأة المسلمة تمامًا مثل الغربية، وشجعها على تعليم الموسيقى والرسم والتصوير، وعاب على "مَنْ يعدها من الملاهي التي تنافي الحشمة والوقار" وتحسر "أنه ترتب على هذا الوهم الفاسد انحطاط درجة هذه الفنون في بلادنا إلى حد يأسف عليه كل من عرف ما لها من الفائدة في ترقية أحوال الأمم".
وفي مسألة الطلاق دعا إلى تقييد الطلاق بسلسلة من الإجراءات، واقترح أن يعتبر الطلاق غير صحيح إلا إذا وقع أمام القاضي. وتعدد الزوجات في نظره ".. احتقار شديد للمرأة، وأنه ليجمل برجال هذا العصر أن يقلعوا عن هذه العادة من أنفسهم، ولا أظن أن أحدًا من أهل المستقبل يأسف على تركها".
هذه بعض (أبواب الإصلاح) التي طرقها قاسم أمين باسم الشرع والدين، ونحن الآن بعد قرابة القرن من صدور كتابيه يمكننا بالنظر في أحوال المرأة المصرية وأوضاعها الراهنة، أن نتبين ونلمس كيف كانت دعوته (إصلاحًا) لعقول النساء للإلقاء بأنفسهن طائعات في طوفان الحضارة الغربية.
وقد ذهب البعض إلى أن قاسم أمين تأثر ب (نازلي فاضل) في كل ما فعل وكانت سبباً رئيساً في تحوله الفكري - ينقل الكاتب الجزائري عبد الله بوفولة - ما يفيد تطورات التحول الفكري لقاسم
قائلاً: يقول داوود بركات رئيس تحرير جريدة الأهرام الذي كتب مقالاً في الأهرام 4 ماي1928 م يذكر فيه أن قاسم أمين حين قرأ كتاب المصريون تأليف الدوق دي راكور- كاتب فرنسي- وقد تضمن هجوماً على المصريين والإسلام- رد عليه بكتاب باللغة الفرنسية دافع فيه عن الإسلام والمصريين وفند اتهاماته، فلما ظهر هذا الكتاب وصف بأنه لم يكن في صف النهضة النسائية فقد رفع من شأن الحجاب وعده دليلاً على كمال المرأة كما ندد بالدعوة على السفور وقد رأت فيه الأميرة نازلي فاضل تعريضاً بها فأشارت إلى جريدة المقطم أن تكتب ستة مقالات عنه تفند أخطاء قاسم في هذا الاتجاه ودفاعه عن الحجاب واستنكاره اختلاط الجنسين ثم أوقفت الحملة بعد اتفاق الشيخ محمد عبده وسعد زغلول مع قاسم أمين على تصحيح رأيه.
أما فارس النمر فقد أشار في مقال له بمجلة الحديث سنة 1939 إلى هذا... واتفق الشيخ محمد عبده وسعد زغلول والمويلحي وغيرهم على أن يتقدم قاسم أمين باعتذار إلى سمو الأميرة فقبلت اعتذاره- وأوقفت الحملة ضده ثم أخذ يتردد على صالونها وكلما مرت الأيام ازدادت في عينه وارتفع مقامها لديه وإذا به يضع كتابه الأول عن المرأة الذي كان السبب فيه الأميرة نازلي والذي أقام الدنيا وأقعدها بعد أن كان أكثر الناس دعوة إلى الحجاب وأشارت هدى شعراوي في محاضرة لها إلى هذا السر الذي ظل خافياً زمناً طويلاً، ولم يكشف إلا بعد وفاة قاسم أمين بأكثر من عشرين عاماً كان خلالها موضع الخلاف والصراع بين المحافظين والمجددين. ولكن الذي يلفت النظر هو أن يناقض قاسم أمين رأيه في خلال سنوات قليلة فبعد أن كان يشيد بالحجاب يعود فيدعو على نقيضه تحت ضغط ظروف مفروضة، لم تنم عن الإقناع أو الإيمان بالرأي.
أما زوجته:
قد تحدثت عقيلة قاسم أمين بعد وفاته
قائلة: إنما كان قاسم ينادي ب(السفور الشرعي) الذي لا يزيد عن إظهار الوجه أو اليدين أو القدمين ولا يتجاوزه إلى إظهار العورات أو إلى اختلاط المرأة بالرجل على النحو الواقع الآن، وإني أعتقد أن قاسم أمين لو كان حيا لما رضي عن هذا الحال بل لانبرى لمحاربته ويحزنني أن أرى الكثيرين يحملون قاسم مسئولية ما تطورت إليه الأمور. أ .هـ
ومن العجيب أن زوجة قاسم أمين لم تكشف وجهها قط:
يقول مصطفى أمين في كتابه "من واحد لعشرة" ( ص 119-120) متحدثًا عن واقع بيت سعد زغلول الذي كان إسلاميًا ثم انتكس وتمت صناعته صناعة (عصرية) (تنويرية)!:
كان غريباً في تلك الأيام أن يدعى رجل من غير أفراد الأسرة للجلوس على مائدة واحدة مع سيدات الأسرة، ولكن الفلاح الأزهري القديم سعد زغلول كان لا يجد غضاضة في أن يجلس أصدقاؤه المقربون مع أسرته لتناول الغداء والعشاء.
وكانت هذه ظاهرة غريبة في بيت سعد زغلول! إن معاصريه ما كانوا ليسمحوا لزوجاتهم برؤية أصدقائهم، ولا يذكر أحد من أصدقاء عدلي يكن باشا أنه رأى وجه زوجته، ولا يذكر أقرب صديق لحسين رشدي باشا أنه تناول معه الغداء في حضور زوجته.. بل الأغرب من هذا كله أن قاسم أمين زعيم تحرير المرأة، كان يتردد باستمرار على بيت سعد زغلول ويتناول الغداء معه ومع صفية، ولكن زوجة قاسم أمين لم تحضر هذا الغداء الدوري مرة واحدة!
ويذكر الكاتبان (مصطفى أمين نفسه وأخاه علي أمين) بعد وفاة قاسم أمين بعشر سنوات أن زوجته كانت تأتي بين وقت وآخر لزيارة صفية زغلول، فلا تكشف وجهها أمامهما، بل إنها إذا تناولت الغداء مع صفية، كانت تُعد لهما مائدة في غرفة أخرى، وتُناول سعدًا الطعام وحده، ذلك أن قاسم أمين الرجل الذي دعا المرأة المصرية إلى نزع الحجاب فشل في إقناع زوجته بأن تنـزع حجابها، وظلت متمسكة بوضع الحجاب على وجهها).
وقد توفي قاسم أمين في الثالث والعشرين من إبريل 1908 م
من كتاباته: - المصريون
- تحرير المرأة 1899
- المرأة الجديدة 1901
كتبه
محمد أبو الهيثم
خاص بموقع لواء الشريعة محمد أبو الهيثم
المصدر: لواء الشريعة