السؤال:
أنا فتاة في التاسعة عشرة ، وقد تقدم لي شاب تعرفت عليه في المرحلة الثانوية ، وتحدثت معه للأسف بعض الحديث الذي ما كان ينبغي لي أن أتحدثه ، لكننا تبنا والحمد لله ، ويريد الآن أن نتزوج ، غير أن المشكلة تتمثل في أبيه المرتد والذي يعاني من الوساوس القهرية ومن الاضطرابات ثنائية القطب ، وقد قرأت فيما قرأت أن الوساوس القهرية من الشيطان ، وأنها تتسبب للمرء ببعض الهواجس الدينية .
فهل يُعتبر محاسباً عن ردّته رغم معاناته من تلك الأمراض العقلية ؟
كما أن ابنه يسأل عن ما هو دورهم كأسرة تجاه أبيهم ؟
فأمّه ما زالت تعيش مع أبيه رغم أنه تسبب لهم بالكثير من الخسائر المالية بسبب مرضه .
فما حقوق الأسرة التي على الأب ؟ ، وما حقّ الأب عليهم ؟
إن كان هناك من حقوق في مثل هذه الحالة ، يجدر الإشارة إلى أنه غير متعاون معهم على الإطلاق في مسألة العلاج .
سؤال أخير:
إذا تزوجت هذا الشاب فما نوع العلاقة التي ينبغي أن تكون بيني وأبنائي وبين وأبيه ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا :
الوسواس القهري هو مجموعة من الأفكار والخواطر السيئة تتوالى وتتكرر على ذهن الإنسان رغماً عنه ، بحيث إنه لا يستطيع إزالتها أو الانفكاك عنها ، مع علمه ويقينه بأنها أفكار سخيفة وغير مقبولة ، إلا أنه يستمر تواردها على خاطره قهرا ، وتسبب له الكثير من الإزعاج والحرج والألم .
ويكون علاج الوسواس القهري، وغيره من أنواع الوساوس بالإكثار من ذكر الله وطاعته واللجوء إليه بالتضرع والدعاء والاستعاذة، وإغفال الوسوسة وإهمالها وعدم الاسترسال معها ، وتحتاج بعض الحالات إلى مراجعة الطبيب .
وينظر جواب السؤال رقم : (
39684) ، (
90819) .
وهذا الوسواس لا يؤاخذ الله به ، ولا يحاسب الإنسان عليه ، لأنه خارج عن إرادته ، ومتسلط عليه بالقوة والقهر لا بالاختيار ، وقد قال الله تعالى : ( لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ) البقرة/ 286 ، وقال: ( لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ماَ آتاَهاَ ) الطلاق/ 7 ، وقال: ( فَاتَّقُوا الَله مَا اسْتَطَعْتُمْ ) التغابن/ 16 .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ، مَا لَمْ تَعْمَلْ ، أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ ) .
أخرجه البخاري (6664) ، ومسلم (127) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" لا يؤاخذ الله من ابتلي بالوسواس القهري لقول الله تعالى : ( رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) ولقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ) لكن على من ابتلي بالوسواس أن يكثر الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم وأن يتلهى عن ذلك ويعرض عنه فإنه متى فعل هذا زال عنه بإذن الله " انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (24/ 2) بترقيم الشاملة .
فإذا كان هذا الرجل يتكلم بكلام الكفر والخروج عن الملة بسبب هذا الوسواس القهري ، دون أن يكون واعيا لما يقوله ، وفاهما لمعناه ، أو يكون فاهما له ، لكنه لم يقصده ، ولم ينطق به عن اختيار ، بل نطق به ملجأ إليه ، ومكرها عليه ، تحت ضغط الوسواس : فإنه لا يؤاخذ به ؛ لأنه فوق طاقته ، وخارج عن إرادته ، فهو في حكم من تكلم بالكفر مكرها ، وقد قال الله تعالى : ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) النحل/ 106 .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" إذا أكره على الكفر فكفر ، وكان قلبه مطمئنا بالإيمان ، لم يحكم بكفره ؛ لوجود المانع وهو الإكراه " انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (3/ 54) .
وجاء في "الموسوعة الفقهية" (13/ 229):
" لاَ يَجُوزُ تَكْفِيرُ مُكْرَهٍ عَلَى الْكُفْرِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإْيمَانِ ، قَال تَعَالَى : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإْيمَانِ ) " انتهى .
ينظر جواب السؤال رقم : (
62839) .
وعلى ذلك : فليس هذا الرجل في حكم المرتد ، إلا أن ينطق ، أو يعمل بشي من أعمال الكفر وأقواله ، في حال وعيه لنفسه ، واختياره وقصده ، فهنا يحكم عليه بحكم الردة ، ويتحمل المسؤولية كاملة عن أقواله وأفعاله .
ثانيا :
دور الأسرة تجاه هذا الأب المسكين يتلخص فيما يلي :
أولا : يجب على جميع أفراد الأسرة تحمله والصبر عليه فيما يحصل منه من أحوال وأمور غير مرضية ؛ لأن ذلك إنما يحصل عن غير قصد منه .
ثانيا : السعي في علاجه والإنفاق عليه قدر الاستطاعة ، والتحيل لذلك بما يمكن من الحيل ؛ فكثير من حالات الوسواس تكون حالات مرضية تعالج عن طريق الأطباء النفسانيين أو غيرهم .
ثالثا : الإكثار من الدعاء والتضرع إلى الله لكشف هذا الضر وصرف هذا البلاء .
رابعا : الرقية الشرعية ، فيرقيه ابنه أو زوجته أو أي أحد من أسرته أو غيرهم الرقية الشرعية ، فكثير من أنواع البلاء والأمراض المستعصية يكشف الله ضرها بفضله بالرقى المشروعة من الكتاب والسنة .
ينظر جواب السؤال رقم : (
3476) .
ثالثا :
إذا كان هذا الخاطب ذا خلق ودين ، فلا حرج في الزواج به ، وسواء كان والده صحيحا أو مريضا ، وسواء كان مسلما أو مرتدا ، فإن ذلك كله لا يمنع من الزواج بابنه ، متى كان هذا الابن مرضي الدين والخلق .
على أننا لا نرى أن تتسرعي في قبول مثل ذلك ، بل التأني في مثل هذه الزيجات التي تحفها مشكلات اجتماعية معقدة : أولى وأقرب إلى العقل والحكمة .
ويجب عليك أن يعلم أولياؤك بالأمر ، وأن يقفوا بأنفسهم على حقيقة الحال ، ليقرروا ما يناسب ابنتهم .
وإذا شعرت أن ذلك سوف ينعكس على حالك ومعيشتك ، وعلاقاتك الاجتماعية : فأنت ما زلت صغيرة ، ولو انتظرت فرصة أنسب لك ، وأبعد لك عن المشكلات ، فلعل هذا أن يكون أولى وأنسب .
فإن أبيت إلا قبول هذا الخاطب ، ورضي أولياؤك بالحال : فليكن مسكنك ومسكن زوجك منفصلا ، فهو أبعد من الحرج ، وأسلم من المشكلات .
ثم هو جد أولادك ، وهو أيضا حموك ، أبو زوجك ، فاجتهدي في الإحسان إليه ، بما استطعت.
وراجعي أيضا جواب السؤال رقم : (
130935) .
ويراجع للفائدة جواب السؤال رقم : (
146463) .
والله تعالى أعلم .