زعم الشيعة ومن تابعهم أن عليًا لم يبايع أبا بكر
أخرج البيهقي في كتابه (الاعتقاد) بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطباء الأنصار، فجعل الرجل منهم يقول: يا معشر المهاجرين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل رجلاً منكم قرن معه رجلاً منا، فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان، أحدهما منكم والآخر منا. قال: فتتابعت خطباء الأنصار على ذلك، فقام زيد بن ثابت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وإن الإمام يكون من المهاجرين، ونحن أنصاره كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر فقال: جزاكم الله خيراً يا معشر الأنصار، وثبَّتَ قائلكم. ثم قال: أما لو فعلتم غير ذلك لما صالحناكم. ثم أخذ زيد بن ثابت بيد أبي بكر فقال: هذا صاحبكم فبايعوه، ثم انطلقوا، فلما قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم، فلم ير علياً، فسأل عنه، فقام ناس من الأنصار فأتوا به، فقال أبو بكر: ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وخَتْنَه أردت أن تشق عصا المسلمين؟! فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعه" [أخرجه أحمد 5/185-186، والطبراني في الكبير 4785، وقال الهيثمي في الزوائد 5/8938: رواه الطبراني وأحمد ورجاله رجال الصحيح].
وعن سعد بن إبراهيم قال: حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف في هذه القصة قال: ثم قام أبو بكر فخطب الناس واعتذر إليهم -يعني: إلى علي والزبير ومن تخلف- وقال: والله ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً وليلة قط، ولا كنت فيها راغباً، ولا سألتها الله في سر ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، ولكن قُلِّدتُ أمراً عظيماً، ما لي به طاقة ولا يدان إلا بتقوية الله، ولوددتُ أن أُقوِّي الناس عليها مكاني عليها اليوم، فقبل المهاجرون منه ما قال وما اعتذر به، وقال علي والزبير: ما غضبنا إلا أنا أُخِّرنا عن المشاورة، وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه لصاحب الغار، وثاني اثنين، وإنا لنعرف شرفه وكِبرَه، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس، وهو حيٌّ".
وكذلك رواه إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمه موسى بن عقبة، وكذلك ذكره محمد بن إسحاق بن يسار في المغازي، وقال في اعتذار أبي بكر إلى علي وغيره ممن تخلف عن بيعته: أما والله ما حملنا على إبرام ذلك دون من غاب عنه إلا مخافة الفتنة، وتفاقُم الحدثان، وإن كنتُ لها لكارهاً، لولا ذلك ما شهدها أحد كان أحب إليّ أن يشهدها منك إلا من هو بمثل منـزلتك، ثم أشرف على الناس فقال: أيها الناس، هذا علي بن أبي طالب فلا بيعة لي في عنقه، وهو بالخيار من أمره، ألا وأنتم بالخيار جميعاً في بيعتكم إياي، فإن رأيتم لها غيري فأنا أول من يبايعه، فلما سمع ذلك علي من قوله، تحلل عنه ما كان قد دخله، فقال: لا حِلّ، لا نرى لها أحداً غيرك، فمدّ يده فبايعه هو والنفر الذين كانوا معه، وقال جميع الناس مثل ذلك، فردُّوا الأمر إلى أبي بكر، وقالوا: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم،وذلك لأنه استخلفه على الصلاة بعده، فكانوا يسمّونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى هلك".
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبدالجبار، حدثنا يونس بن بُكَير، عن محمد بن إسحاق،فذكر قصة السقيفة، ثم ذكر بيعة العامة من غَدِ السقيفة، ثم ذكر ما نقلناه.
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه ذهب فيما خيّرهم فيه من مبايعةٍ مذهب التواضع، واستبرأ قلوبهم في استخلافه، حتى إذا عرف منهم الصدق سكن إلى اجتماعهم على ذلك في السر والعلانية.
وقد صحَّ بما ذكرنا اجتماعهم على بيعته مع علي بن أبي طالب، ولا يجوز لقائل أن يقول: كان باطن علي أو غيره بخلاف ظاهره، فكان علي أكبر محلاً وأجلّ قدراً من أن يُقدم على هذا الأمر العظيم بغير حق، أو يُظهر للناس خلاف ما في ضميره، ولو جاز ادعاء هذا في إجماعهم على خلافة أبي بكر، لم يصح إجماع قط، والإجماع أحد حجج الشريعة، ولا يجوز تعطيله بالتوهم.
والذي روي أن علياً لم يبايع أبا بكر ستة أشهر، ليس من قول عائشة، إنما هو من قول الزهري، فأدرجه بعض الرواة في الحديث عن عائشة في قصة فاطمة رضي الله عنهما، وحفظه معمر بن راشد، فرواه مفصّلاً وجعله من قول الزهري منقطعاً من الحديث.
وقد روينا في الحديث الموصول عن أبي سعيد الخدري ومن تابعه من أهل المغازي: أن علياً بايعه في بيعة العامة بعد البيعة التي جرت في السقيفة.
ويحتمل أن علياً بايعه بيعة العامة، كما روينا في حديث أبي سعيد الخدري وغيره. ثم شجر بين فاطمة وأبي بكر كلام بسبب الميراث، إذ لم تسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب الميراث ما سمعه أبو بكر وغيره، فكانت معذورة فيما طلبته، وكان أبو بكر معذوراً فيما منع، فتخلّف علي عن حضور أبي بكر حتى توفّيت، ثم كان منه تجديد البيعة والقيام بواجباتها، كما قال الزهري، ولا يجوز أن يكون قعود علي في بيته على وجه الكراهية لإمارته، ففي رواية الزهري أنه بايعه بعدُ، وعظّم حقه، ولو كان الأمر على غير ما قلنا، لكانت بيعته آخراً خطأ.
ومن زعم أن علياً بايعه ظاهراً، وخالفه باطناً، فقد أساء الثناء على عليّ، وقال فيه أقبح القول، وقد قال علي في إمارته وهو على المنبر: "ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بلى، قال: أبو بكر، ثم عمر. ونحن نزعم أن علياً كان لا يفعل إلا ما هو حق، ولا يقول إلا ما هو صدق، وقد فعل في مبايعة أبي بكر ومؤازرة عمر ما يليق بفضله، وعلمه، وسابقته، وحسن عقيدته، وجميل نيته في أداء النصح للراعي والرعية وقال في فضلهما ما نقلناه في كتاب الفضائل، فلا معنى لقول من قال بخلاف ما قال وفعل.
وقد دخل أبو بكر الصديق على فاطمة في مرض موتها وترضَّاها حتى رضيت عنه، فلا طائل لسخط غيرها ممن يدّعي موالاة أهل البيت، ثم يطعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُهَجِّن من يواليه، ويرميه بالضعف والعجز، واختلاف السّرّ والعلانية في القول والفعل، وبالله العصمة والتوفيق.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، حدثنا محمد بن عبدالوهاب، حدثنا عبدان بن عثمان العتكي بنيسابور، أخبرنا أبو حمزة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق، فاستأذن عليها، فقال علي: يا فاطمة، هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحبّ أن آذن له؟ قال: نعم. فأذنت له، فدخل عليها يترضّاها وقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله، ومرضاة رسوله ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضاها حتى رضيت" [الاعتقاد للبيهقي، ص 472-477 تحقيق عبدالله الدرويش].
قلتُ: وبما سبق من كلام البيهقي رحمه الله يُفهم ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "... كان لعلي من الناس وجهٌ حياةَ فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته - ولم يكن يبايع تلك الأشهر- فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا، ولا يأتنا أحد معك، كراهة لمحضر عمر، فقال عمر: لا والله لا تدخل عليهم وحدك. فقال أبو بكر: وما عسيتهم أن يفعلوا بي؟ والله لآتينهم. فدخل عليهم أبو بكر، فتشهد علي فقال: إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك. ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيباً، حتى فاضت عينا أبي بكر. فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله أحب إلي أن أصل من قرابتي. وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيه عن الخير، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله يصنعه فيها إلا صنعته. فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة. فلما صلى أبو بكر الظهر رقى على المنبر فتشهد، وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر. وتشهّد علي فعظم حق أبي بكر، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر، ولا إنكاراً للذي فضله الله به، ولكنا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً فاستبد علينا، فوجدنا في أنفسنا، فسر بذلك المسلمون وقالوا: أصبت، وكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع الأمر بالمعروف [الفتح 7/564].
وما أجمل ما أخرجه البخاري عن عقبة بن الحارث قال: "صلى أبو بكر رضي الله عنه العصر ثم خرج يمشي، فرأى الحسن يلعب مع الصبيان، فحمله على عاتقه وقال: بأبي شبيه بالنبي، لا شبيه بعلي، وعلي يضحك" [الفتح 6/651، 7/119]، زاد الإسماعيلي في روايته: "بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بليال، وعلي يمشي إلى جانبه" [الفتح 6/656، وانظر: الخلافة الراشدة والدلة الأموية، د. يحيى اليحيى، ص 186-188].
ومن كتب الرافضة أزودكم بهذه الوثيقة عن كلام مهديهم الذي يقول: "أنه لم يكن أحد من آبائي إلا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه".
وهذا دليل من مصادر القوم