يضطلع (الدين) بعمل رئيس في تحديد ملامح كل من السياسة والهوية والثقافة الأمريكية، فالدين أساس جوهري في تكوين شخصية الأمة الأمريكية، كما يساعد في بلورة أفكار المواطنين الأمريكيين ورؤاهم عن العالم. وذلك على الرغم من تعريف الدستور الأمريكي لنظام الحكم في الولايات المتحدة بأنه "علماني" لا يتبنى ديناً معيناً لنظام الدولة أو الحكومة بحكم التنوع العرقي والديني وحتى الطائفي والمذهبي الذي تعرفه الولايات المتحدة منذ نشأتها. بيد أن الواقع والتاريخ يشير إلى مدى تغلغل (الدين) في حياة المواطن والسياسي الأمريكي على حد سواء، إذ يهيمن على المجتمع الأمريكي شعور قوي بكونهم "شعباً مختاراً" ذا رسالة عالمية تفرض عليهم واجب نشر القيم والمبادئ (قيمهم بالذات) في جميع أرجاء المعمورة.
ولكون (الدين) عاملاً مهماً وخفياً في الوقت ذاته، في حياة الفرد الأمريكي، فإن الاستطلاعات والبحوث المخصصة لدراسة توجهات الناخب الأمريكي تأخذ في حسبانها أثر هذا العامل في اختيار الناخب الأمريكي لمرشحيه على المستويين التشريعي (مجلس النواب ومجلس الشيوخ) والتنفيذي (البيت البيضاوي).
ولعل واحداً من أهم الاستطلاعات الأمريكية التي أجريت أخيرًا استطلاع أجراه (منتدى بيو للدين والحياة العامة) عن الدين والحياة العامة في الولايات المتحدة[1]، شمل أكثر من خمسة وثلاثين ألف أمريكي فوق الثامنة عشرة من عمرهم، ويهدف الاستطلاع إلى قياس حجم التحولات الدينية التي طرأت على المجتمع الأمريكي المعروف بتنوع طوائفه الدينية.
وقد بيّن الاستطلاع أن الأمريكيين في حالة تنقل دائم بين الأديان، إذ تفقد الأديان الكبرى في الولايات المتحدة أتباعاً كل يوم، وتكسب في المقابل أتباعاً جدداً مما يعني أن الحركة والتنقل سمتان أساسيتان للخريطة الدينية في أمريكا. ولعل من أهم وأخطر النتائج التي خلص إليها الاستطلاع أن الولايات المتحدة تتجه لتغيير هويتها البروتستانتية، إذ تصل نسبة البروتستانت فيها إلى 51% فقط.
ويظهر الاستطلاع أن 16% من المسيحيين البروتستانت تحولوا لمذهب مسيحي آخر، وتصل نسبة الأمريكيين الذين عرفوا أنفسهم على أنهم "بلا دين" إلى 16.1% من إجمالي عينة الاستطلاع. وفى فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18-29 عاماً هناك واحد من كل أربعة لا ينتمي لدين بعينه.
وينقسم الأمريكيون البروتستانت إلى ثلاث فئات بروتستانتية رئيسية هي: فئة الإنجيليين البروتستانت، التي تُشكل 26.3%، وفئة البروتستانت الرئيسية التي تمثل 18.1%، وفئة البروتستانت السود التاريخية التي لا تتجاوز نسبتها 6.9%.
وفي المذهب الكاثوليكي الذي نشأ عليه واحد من كل ثلاثة أمريكيين، تصل نسبة فقد الأتباع إلى 31%، ويعود الفضل في تعديل ميزان الكاثوليكية أساسًا إلى معدلات الهجرة المرتفعة بينهم، فعدد الكاثوليك ضعف عدد البروتستانت في فئة الأمريكيين الذين ولدوا خارج الأراضي الأمريكية (46% كاثوليك، 24% بروتستانت). بينما ينعكس الوضع في أوساط الأمريكيين الذين ولدوا داخل الولايات المتحدة لصالح البروتستانت بأرقام أكبر (55% بروتستانت، 21% كاثوليك).
أما المسيحيون الأرثوذكس فلا تتعدى نسبتهم 0.6% من عدد الأمريكيين البالغين، ويُمثل المورمون 1.7%، وشهود يهوه 0.7%، والجماعات المسيحية الأخرى 0.3%.
أما في فئة "اللادينيين" التي تصل نسبتهم إلى 16.1%، فإن ربع هؤلاء يصفون أنفسهم بأنهم ملحدون. وقالت الغالبية إنها لا تعتنق ديناً محدداً. وتضم هذه الفئة التي تمثل غالبية اللادينيين: العلمانيين الذين يرون أن الدين ليس مهماً في حياتهم، وتصل نسبتهم إلى 6.3%، وأشخاص يعتقدون بأهمية الدين في الحياة وهم 5.8%.
ويفيد الاستطلاع أن التنوع يشمل الأقليات الدينية في الولايات المتحدة، فغالبية اليهود الذين يمثلون 7% من عدد السكان يصنفون أنفسهم في واحدة من ثلاث مجموعات كبيرة هي اليهود الإصلاحيين أو المحافظين. والوضع مشابه في وسط البوذيين الذين يُشكلون 0.7% من مجموع السكان إذ ينتمون لطوائف "زن" و"ثيرافادا" و"التيبت"، أما المسلمون الذين يمثلون 0.6% من المجتمع الأمريكي فينقسمون بين سنة وشيعة.
إلا أن حالة التنقل الدائم بين الأمريكيين من دين لآخر، والتي يؤكدها الاستطلاع إذ تُظهر حجم المنافسة الشديدة بين الأديان، فإن الرابح الأكبر من هذه المنافسة هم فئة "اللادينيين"، فهم الفئة الأكثر كسباً لأتباع جدد، إذ يرتد الكثير عن دينهم ليدخلوا هذه الفئة، ولا يخرج منها سوى أعداد قليلة بنسبة 3% إلى 1%.
ويكشف الاستطلاع أن الرجال هم الأكثر ميلاً من النساء لوصف أنفسهم بأنهم بلا دين، إذ تبلغ النسبة بينهم 20% مقارنة بـ13% من النساء. وفى أوساط الرجال المتزوجين هناك 37% من الرجال المتزوجين من نساء يعتنقن ديناً آخر غير دينهم، وأكثر الأديان مرونة في الزواج من أشخاص لا يتبعون ديانتهم هم الهندوس 78% والمورمون و71%، لكن تظل نسبة استعدادهم للزواج من أتباع الدين نفسه كبيرة (90% و83%). ويعد المورمون والمسلمون أكثر الجماعات الدينية تكويناً للأسر الكبيرة، إذ يلد الواحد من كل خمسة مورمون ثلاثة أطفال أو أكثر، بينما تصل النسبة إلى 15% في أوساط المسلمين.
ويشير الاستطلاع إلى أن منطقة وسط غرب أمريكا مثال نموذجي للتنوع الديني في الولايات المتحدة، في حين تُعتبر منطقة الجنوب الأمريكي معقلاً لكنائس الإنجيليين البروتستانت، ومنطقة الشمال الشرقي مركزاً لكنائس الكاثوليك، أما الغرب الأمريكي فيضم أكبر نسبة من اللادينيين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] يمكن مطالعة الاستطلاع كاملاً على الرابط التالي:
http://religions.pewforum.org/reports