السؤال: أنا امرأة أُعاني مِن مرض الصَّرَع، وأراد شخصٌ أن يتقدَّم لي، فشرحتُ له مرضي وظروفي، فكان ردُّه إيجابيًّا، وقال: سأتقدَّم لكِ، ولا يهمني أيًّا كان مرضُكِ, ولكني أخبرتُه أن يُخبِر أهله قبل أن يأتيَ لخطبتي، وألححتُ عليه في ذلك, وبالفِعل أخبر أهلَه، فقالوا له: لا نرضى لكَ ذلك، ولديك خياران:
- أن تتركها.
- أو أن تتزوَّجها ولا تُنجب منها أبدًا؛ لأنهم يعرفون أصدقاء لهم يُعانون من هذا المرَض، وقد انتقل إلى ذريتهم مرضُ الصِّراع، ورأَوا بأنفسِهم معاناةَ هذه الأُسَر!
فأخبَرَني بما قالوا، وأراد أن أستشيرَ أختي الكبرى، وأن أفكِّر في الأمر جيدًا قبل اتِّخاذ أيِّ قرار.
حقيقة لا أستطيع أن أخبرَ أهلي بهذا، ولن أجرؤ على ذلك، ولن أخبرَ أحدًا على الإطلاق؛ لذلك ليس لي أحدٌ بعد الله سواكم؛ أخشى أن يُصيبَ هذا المرضُ ذريَّتنا في المستقبل، وفي نفس الوقت أحب الأطفال، وهذا شيءٌ غريزي في الأنثى؛ لا أعرف ماذا أفعل؟ وما القرار الصحيح؟
علمًا بأني فعلًا أحبه وأريده، وهو يُبادلني نفس الشعور, لكن أخشى أن أندمَ في المستقبل على أي قرار أتَّخِذه.
الإجابة:
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فأسأل اللهَ العظيم ربَّ العرشِ العظيمِ أن يشفيَكِ، أَذهِبِ الباسَ، ربَّ الناسِ، اشفِ أنت الشافي، لا شفاءَ إلا شفاؤُك، شفاءً لا يُغادر سَقَمًا، وبعد:
فقد أثبتَ العلمُ بوسائلِه الحديثة أنَّ أنواعًا من الأمراض تَنتقِل من المصاب بها إلى سُلالتِه، وأن الوِراثة سببٌ في انتقالِ بعض الأمراض، والطِّباعِ، والصِّفاتِ، من الأصول إلى الفُرُوعِ، والأحفاد، حتى صارت واقعًا مقطوعًا به عند البعض، وظنًّا راجحًا عند الآخرين، فإذا كان كذلك من الناحية الشَّرعيةِ، والعلميَّة التجريبية، فهل هذا يُبِيح اشتراطَ قطعِ النَّسل؟ أو الحكم بمنع الصلاحيةِ للإنجاب لمن يثبُتُ إصابتُه من الزوجين أو كليهما بمرضٍ قد ينتقلُ بالوِراثة؟
الذي يظهرُ من الكليَّات: أنه يجوز منعُ الإنجابِ إذا كان بأحدِ الزوجين مرضٌ عقليٌّ، أو جسديٌّ، أو نفسيٌّ مزمِنٌ، ولا نعرف له علاجًا، وفي نفس الوقت ينتقِلُ للذرِّية عن طريقِ الوِراثة، إذا تأكَّد ذلك بالطُّرق العلميَّة والتجريبيَّة، فنَلجَأُ للمنعِ المؤقَّت للنَّسل؛ دفعًا للضررِ القائم فعلًا، أو المتيقَّن حدوثُه إذا تمَّ الإنجابُ، حتى يمُنَّ اللهُ علينا بدواءٍ ناجع.
هذا، وقد راعى كثيرٌ من علماءِ الإسلام أَثَرَ الوِراثة في حُدُوث الإعاقاتِ؛ يظهر هذا فيما نُقِلَ عنهم من الحثِّ على الزَّواج من غير الأقاربِ؛ لمنع حصول الذرية الضعيفة، ومن ذلك قولهم: "اغتَرِبوا ولا تضْوُوا"؛ يعني: تزوَّجوا الأجنبيَّات غير الأقارب؛ لئلا تكونَ ذريَّتُكم ضعيفةً.
وقد رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اغتَرِبوا ولا تضْوُوا"، وقول عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه لآل السائب: "قد أَضويتم؛ فانكِحوا في النوابغ"، وعن الشافعيِّ، قال: "أيُّما أهل بيتٍ لن تَخرُج نساؤُهم إلى رجالِ غيرهم، كان في أولادِهم حُمْقٌ".
قال الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخُ الأزهر؛ كما في "فتاوى الأزهر" (2 / 318): حُكمُ الإسلام في وراثةِ الأمراض والصِّفات والطِّباع وغيرها:
"إن وراثةَ الصِّفاتِ والطباعِ والأمراضِ وتناقُلَها بين السلالات - حيوانيةً ونباتيةً - وانتقالَها مع الوليد، وإلى الحفيد أمرٌ قَطَعَ به الإسلامُ، وكشف العلمُ عنه.
يَدُلُّنا على هذه الحقيقةِ نصائحُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتوجيهاتُه في اختيارِ الزَّوجة؛ فقد قال: "تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُم"، وقال: "إيَّاكم وخَضْراءَ الدِّمَنِ، فقيل: وما خَضْراءُ الدِّمَنِ؟ قال: المرأةُ الحسناءُ في المَنبَتِ السُّوءِ"؛ وتُفسِّر معاجمُ اللغةِ لفظَ "الدِّمَن": بأنه ما تَجَمَّع وتَجَمَّد من روث الماشيةِ وفضلاتِها.
فكلُّ ما نَبَتَ في هذا الرَّوْث وإن بَدَتْ خُضرتُه ونُضْرَتُه، إلا أنه يكون سريعَ الفساد، وكذلك المرأةُ الحسناءُ في المنبتِ السُّوءِ، تنطبِعُ على ما طُبِعَتْ عليه لُحْمَتُها، وغُذِيَتْ به، ومن هذا القَبيلِ تحريمُ أكلِ لحمِ السِّباع، وغيرِها من الحيوانات سيئةِ الطِّباعِ والمتوحِّشة؛ منعًا لانتقال طِباعِها وصفاتِها إلى الإنسان!
ولعلَّ نظرةَ الإسلام إلى علم الوراثةِ تتضحُ جليًّا من هذا الحوارِ الذى دار بين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وبين رجلٍ من بني فزارةَ، اسمُهُ: ضمضمُ بنُ قتادةَ حين قال هذا الرجل: إن امرأتي ولدَتْ غلامًا أسودَ، وهو بهذه العبارة يُعرِّضُ بأن ينفيَ نسبَ هذا الولد إليه، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "هل لكَ من إبلٍ؟، قال: نعم، قال: ما ألوانُها؟ قال: حُمْرٌ، قال: فهل فيها من أَوْرَقَ؟ - أي: لونُه لونُ الرَّماد -، قال: نَعَمْ، قال: أنَّى تَرَى ذلك؟ قال: أراه نَزَعَه عِرْقٌ، قال: فلَعَلَّ هذا نَزَعَه عِرْقٌ" [متفق عليه].
قال الشوكانيُّ في "نيل الأوطار" (ج - 6 ص 287):
"المرادُ بالعِرق: الأصلُ من النَّسب؛ تشبيهًا بعِرْق الشجرة، ومنه قولهم: فلانٌ عريقٌ في الأصالةِ؛ أي: إن أصلَه متناسبٌ".
وهذا عمرُ بن الخطاب الخليفةُ الثاني في الإسلامِ يقول لبني السائبِ وقد اعتادوا التزوُّجَ بقريباتهم: "قد أَضْويتم"؛ في المصباح المنير: ضَوِيَ الولدُ من باب تَعِبَ: إذا صغُر جسمُه، وهزُل، وأضويتُه، ومنه: اغتربوا لا تضْووا؛ أي: يتزوَّجُ الرجلُ المرأةَ الغريبةَ، ولا يتزوَّجُ المرأةَ القريبة؛ لئلا يجيءَ الولد ضاويًا، "فانكِحوا الغرائبَ"؛ ومعناه: تزوَّجوا الغرائب، ويقال: أغربوا ولا تضْوُوا، وهذا دليلٌ على أن الزواجَ بين ذوي القُربى مؤدٍّ إلى الضُّمور والضَّعف، ومن أجلِ هذا؛ كان توجيهُ عمرَ بالزواجِ من غير القريباتِ؛ حتى لا تتكاثرَ الصفاتُ أو الأمراضُ الموروثةُ المتداوَلةُ في سلالةٍ واحدةٍ؛ فتضعُفَ الذريةُ بوراثةِ الأمراض.
ولم يفُتْ علمُ الوراثة أئمةَ الفقهِ الإسلامي؛ فإن الإمامَ الشافعي رضوان الله عليه لَمَّا قال بجوازِ فسخ الزواج بسبب الجُذام والبَرص، كان مما أورده تعليلًا لهذا: "إن الولَد الذي يأتي من مريضٍ بأحدِ هذينِ الدَّاءين قَلَّما يسلمُ، وإن سَلِمَ، أَدْرَكَ نَسْلَهُ".
قال العلامة ابنُ حجر الهيثمي في "تحفة المحتاج بشرح المنهاج" في نقل تعليل الإمام الشافعيِّ: "والجذامُ والبَرصُ يُعدِيان المُعاشِرَ، والولدَ، أو نسْلَه كثيرًا كما جزَم به في الأم، وحكاه عن الأطباء والمُجرِّبين في موضعٍ آخر.
وإذا كان ذلك هو ما جرى به فقهُ الإسلام؛ إما صراحةً؛ كهذا النقلِ عن الإمام الشافعيِّ، أو ضِمنًا واقتضاءً لنصوص الفقهاءِ في مواضعَ متعدِّدةٍ، وكان سندُهُ ما جاء في نصوصِ القرآن، والسنَّة الشريفة؛ في تحريم أكلِ بعض الحيواناتِ، وما صرَّح به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في العديد من أحاديثِه الشريفةِ عن هذه الوراثة، حسْبما مَضَى من القولِ، كان انتقالُ بعضِ الآفات الجسديَّة والنَّفسيةِ والعقلية من الأصول إلى الفروع حقيقةً واقعةً لا مِراءَ فيها.
وقد أثبتَ العلمُ بوسائلِه الحديثةِ أنَّ أنواعًا منَ الأمراضِ تنتقلُ من المصابِ بها إلى سلالتِه، وأنها إذا تخطَّت الولدَ، ظهرت في وَلَد الولَدِ، أو في الذريةِ من بعده، فالوراثةُ بانتقال بعض الأمراضِ والطِّباعِ والصفات من الأصول إلى الفروعِ والأحفاد صارت واقعًا مقطوعًا به، أو على الأقل ظنًّا راجحًا بالاستقراءِ والتجارِبِ، وإذا كان انتقالُ بعضِ الأمراض والعيوب الجسدية وارثةً من الأصول للفروع على هذا الوجه من الثُّبوتِ الشَّرعيِّ والعلميِّ، فهل يجوز التعقيمُ نهائيًّا - بمعنى: منع الصلاحيةِ للإنجاب - لمن يثبُتُ إصابتُه من الزَّوجينِ أو كليهما بمرضٍ لا بُرْءَ منه، وكان من خصائصِهِ وسِماتِهِ الانتقالُ بالوِراثةِ؟ وهل يجوز الإجهاضُ - بمعنى: إسقاطِ الجنين - إذا اكتُشفت عيوبُه الخطيرةُ التي لا تتلاءم مع الحياةِ العادية؟ وهل يجوز الإجهاضُ إذا كانت هذه العيوبُ يمكن أن يعيشَ بها الجنينُ بعد ولادتِه حياةً عاديةً؟ وهل يجوزُ الإجهاضُ إذا كانت العيوبُ من الممكِنُ علاجُها طبيًّا أو جراحيًّا، أو لا يمكن علاجُها حاليًّا؟ ثم العيوب التي تُورَث من الأبِ أو الأم للأجنَّة الذكور فقط، للإناث فقط، هل يجوز الإبقاءُ على السليمِ وإجهاض المَعِيب؟
للإجابة عن هذه التساؤلات نعود إلى القرآنِ الكريم، وإلى السنَّةِ الشريفة، فلا نجدُ في أيٍّ منهما نصًّا خاصًّا صريحًّا يُحَرِّم التعقيمَ بمعنى: جعلِ الإنسانِ ذكرًا كان أو أنثى غيرَ صالحٍ للإنجاب نهائيًّا وبصفة مستمرَّةٍ، بجراحة أو بدواءٍ أو بأيةِ وسيلةٍ أُخرى، لكنَّ النصوصَ العامةَ فيهما تأباه، وتحرِّمُه بهذا المعنى، وإعمالًا لهذه النصوصِ؛ قال جمهورُ الفقهاءِ: إن تعقيمَ الإنسان محرَّمٌ شرعًا إذا لم تَدْعُ إليه الضرورةُ؛ وذلك لِما فيه من تعطيلِ الإنسال المؤدِّي إلى إهدارِ ضرورة المحافظةِ على النسل، وهي إحدى الضروراتِ الخمسِ التي جعلها الإسلامُ من مقاصدِه الأساسيةِ في تشريع أحكامه؛ "الموافقات" للشاطبي (ج - 2 ص 8 وما بعدها) في مقاصد الشريعة.
أمَّا إذا وُجِدت ضرورةٌ داعيةٌ لتعقيم إنسانٍ، كما إذا كان به مرضٌ عقليٌّ، أو جسَديٌّ، أو نفسيٌّ مُزمِنٌ عصِيٌّ على العلاجِ والدواء، وهو في الوقت نفسه ينتقل إلى الذريةِ عن طريقِ الوراثة، جاز لمن تأكَّدت حالتُه المرَضيةُ بالطرُق العلميةِ والتجريبيةِ أن يلجأ إلى التعقيمِ الموقوت؛ لدفع الضررِ القائم فعلًا، المتيقن حدوثه؛ إذا لم يتمَّ التعقيمُ، وذلك باتخاذ دواءٍ، أو أيِّ طريقٍ من طرق العلاج؛ لإفساد مادة اللِّقاح، أو بإذهاب خاصيَّتِها، سواءٌ في هذا الذكرُ والأنثى، ونعني بإباحة التعقيمِ الموقوت أنه يمكن رفعُ هذا التعقيمِ، واستمرارُ الصلاحية للإنجابِ متى زال المرضُ؛ وإلى مثل هذا المعنى أشار الفقهاءُ في كتبهم؛ فقد نقل ابن عابدين (ج - 2 ص 412) في حاشية "رد المحتار على الدر المختار" في الفقه الحنفي عن صاحب "البحر": أنه يجوزُ للمرأة أن تسدَّ فمَ الرحم؛ منعًا من وصولِ ماء الرجل إليه؛ لأجل منع الحملِ، واشترطَ صاحبُ البحرِ لذلك إذْنَ زوجها.
ونقل البجيرمي (حاشية الخطيب على الإقناع ج - 4 ص 40) أنه يحرُم استعمالُ ما يَقطَع الحملَ من أصله، أما ما يبطئ الحملَ مدةً، ولا يقطعُه، فلا يحرُم، بل إن كان لعذرٍ؛ كتربيةِ ولدِهِ، لم يُكْرَهْ، وإلا كُرِهَ.
وقد فرَّق الشبراملسي الشافعيُّ (نهاية المحتاج وحواشيه) بين ما يمنعُ الحملَ نهائيًّا، وبين ما يمنعُه مؤقتًا، قال بتحريم الأول، وأجاز الثاني؛ باعتبارِه شبيهًا بالعَزْل في الإباحةِ.
وصرَّح الرمليُّ الشافعيُّ نقلًا عن الزركشيِّ: بأنَّ استعمالَ ما يمنع الحملَ قبل إنزال المنيِّ حالةَ الجماع مثلًا لا مانعَ منه.
وقال القرطبيُّ المالكي في كتابه: "الجامع لأحكام القرآن": "إن النُّطفةَ لا يتعلَّقُ بها حكمٌ؛ إذا ألقَتْها المرأةُ قبل أن تستقرَّ في الرَّحِم".
هذه النصوصُ تشير بلا شكٍّ إلى تحريمِ التعقيمِ النهائيِّ المانع للإنجاب؛ حالًا ومستقبلًا، أما التعقيم المؤقت بمعنى: وقْفِ الحملِ، فتجيزُه تلك النصوصُ، وغيرُها.
ذلك لأن التطوُّرَ العلميَّ والتجريبي دلَّ على أن هناك أمراضًا قد تبدو في وقتٍ ما مستعصيةً على العلاج، ثم يُشفَى منها المريضُ في الغدِ القريبِ، أو البعيد، إما لعواملَ ذاتيةٍ، وإما بتقدُّم وسائلِ العلاج؛ من الأدوية والجراحةِ، وغيرهما، وعندئذ يمكن رفعُ التعقيمِ المؤقَّت، عملًا بقاعدة: ما جاز بعُذرٍ، بطل بزوالِه.
هذا بالإضافة إلى أنَّ التعقيمَ - بمعنى: وقْف الإنجابِ مؤقتًا بوضْعِ الموانع أو العوامل المفسِدة لمادة اللِّقاح لدى الزوجِ أو الزوجةِ أو كليهما بصفةٍ وقتيةٍ ريثَما يتمُّ العلاجُ، أو انتظارًا للشفاء من المرض - أمرٌ من الأمورِ التي تدخُل في باب التداوِي المأمورِ به شرعًا في أحاديثِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ومنها: قولُه للأعرابي الذي سألَه: "أنتداوَى يا رسولَ الله؟ قال: نعم؛ فإن اللهَ لم يُنزِلْ داءً إلا أنزلَ له شفاءً، عَلِمَهُ من عَلِمَهُ، وجَهِلَهُ مَن جَهِلَهُ" [رواه أحمد] اهـ. مختصرًا.