السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا فتاة جامعيَّة متخصصة في الهندسة الكيميائية، درست الهندسة في بلدي، وأواصل الآن دراسة الماجستير، لكن بعد عامٍ من الدراسة، ومع ازديادِ طموحي، صِرتُ أُدركُ أكثر أن نوعية التعليم ووسائل البحث في بلدي غير كافية؛ لذا قرَّرت مُواصلة مساري في الخارج، مُخَطِّطةً لأصبح بإذن الله باحثةً أكاديميةً ناجحةً، وأستاذةً جامعيَّةً متميِّزةً؛ فأسعى حاليًّا لنيل مِنحة للدراسة في تركيا، واخترتُ تركيا بالتَّحديد؛ لأنه بلَدٌ مسلمٌ، ومتحضِّر، ولأني أودُّ أن أُسْهِم في نهضة أُمَّتي من خلال عملي في تركيا؛ الدولة المُرشَّحة لتصير إحدى الدُّول المتقدِّمة، ولتكون قائدةً للأمَّة، ثمَّ إنَّ حماسي لهدفي هذا، ووجودي في وسَطٍ مُحفِّزٍ وفاعِل كَتُركيا، يدفعني لأضاعف نشاطي، وأُقدِّمَ أحسن ما عندي، وأكون أكثر فاعليَّة، على عكس وسطي الحالي الذي لا يُشجِّع، بل يثبِّط، ولا يُؤَهِّل لمستوى عِلميٍّ رفيع، ولا إلى رُقِيٍّ إسلاميٍّ حضاريٍّ.
مشكِلتي الوحيدة تكمُن في تردُّد أبي في الموافقة، فهو وكذلك أنا نهتمُّ بالجانب الشَّرعي في المسألة، ونخشى أن يكون سفري وإقامتي هناك بدون مَحرَمٍ أمرًا مُحرَّمًا، أنا في الحقيقة لا أظُنُّ ذلك؛ فتُركيا بلَدٌ مسلِم آمِنٌ، والرُّفقةُ الآمِنة تُغني عن المَحرَم على حدِّ علمي، والمِنحة الدراسيَّة ستُوفِّر لي الإقامة الآمنة، والدخلَ الماليَّ الذي يُغني عن العمل الذي قد لا يكون آمِنًا، وكذلك هدفي السَّامي الذي ذكرتُه سَلَفًا، الذي أرجو به الإخلاص لله، ونفْعَ أمَّتي هدَفٌ يستحق أن أسافر لأجله، وأضحِّي في سبيله، فقد قيل فيما معناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
اطلبوا العِلم ولو في الصِّين"، وقال الشافعي:
تغرَّبْ عن الأوطان في طلب العُلا *** وسافِرْ؛ ففي الأسفار خمسُ فوائِدِ
تفرُّجُ همٍّ، واكتسابُ معيشةٍ *** وعلمٌ، وآدابٌ، وصحبةُ ماجِدِ
ثمَّ إني أقمتُ خِلالَ سنواتي الدراسية الست بعيدةً عن أهلي في الإقامة الجامعية، المكان الذي ازددتُ فيه وعيًا والتزامًا، خاصَّة بعد تَعرُّفي على كثيرٍ من الأخواتِ الفُضليات، والرَّفيقاتِ الصَّالحات، بل إنِّي أحمد اللهَ كثيرًا على هذا الأمر، فوالله إن تجربتي تلك علَّمتني الكثير، وأنضجتني أكثر، وأرجو الله أن تُفيدَني التجربةُ في تركيا أكثر وأكثر، ثمَّ إنه لرُبَّما سيُقَدِّرُ الله لي أن أتزوَّج هنالك من شابٍّ مُسلِمٍ صالِح، وقيادي؛ فيحل المشكِلُ من أصله، لكِنَّ رأيي هذا لا يغني عن حُكْمِ الشَّرع، وحُجَجي التي قدَّمتُها وإن كانت صائبة لا تعني أني على حقٍّ، فما رأيُ فضيلتكم في الأمر؟ وما حكم الدِّين في المسألة؟ جزاكم الله عنَّا كلَّ خير، ونفعنا بإجابتِكم، وبكُلِّ ما تقدِّمونه لنا بإذن الله.
والسلام عليكم ورحمةُ الله وبركاته.
الإجابة: الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فَأُحَيِّي فيكِ عُلُوَّ همَّتكِ في طلبِ علمِ الهندسةِ، ورغبتَك الشديدةَ في نفعِ بلدك، كما أُحَيِّي فيكِ وفي والِدِكِ حرصَكما على مُوافقةِ أحكامِ الشريعة الإسلامية، وعدم مخالفتها.
أمَّا مسألةُ وجوبِ المَحْرَمِ في السفر، فالذي يظهر أن ذلك واجبٌ حال السفر فقط؛ بمعنى: أنه يجبُ أن تصطحبي أحدَ محارمِكِ عند الاجتياز من بلدك للبلد الآخر، ولا يجوزُ أن تسافري وليس معك محرمٌ؛ لِما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "
ولا تُسَافِر المرأةُ إلا مع ذي محرَمٍ"، وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
لا يحِلُّ لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُسافرَ مسيرةَ يومٍ وليلةٍ إلا مع ذي محْرَمٍ"، وقد اتفق الفقهاءُ على أنه يحرمُ على المرأةِ أن تُسافِرَ بمفردها، وأنه لا بد من وُجُود محرَمٍ، أو زَوْجٍ معها.
قال الإمام النووي رحمه الله في "شرح صحيح مسلم": "فالحاصلُ: أنَّ كلَّ ما يُسمَّى سَفَرًا تُنهَى عنه المرأةُ بغيرِ زَوْجٍ، أو محرَمٍ، سواءٌ كان ثلاثةَ أَيَّامٍ، أو يومين، أو يومًا، أو بريدًا، أو غير ذلك؛ لرواية ابن عباس المطْلَقة، وهي آخرُ روايات مسلم السابقة: "
ولا تُسَافِر المرأةُ إلا مع ذي محرَمٍ"، وهذا يَتَنَاوَلُ جميعَ ما يسمَّى سَفَرًا، والله أعلم".
وقد حُكي الإجماعُ على تحريم سَفَرِ المرأة بلا محرَمٍ، إلا السفرَ للحجِّ والعُمْرَةِ، والخروجَ من دار الشرك، أو الفرارَ من الأَسْرِ؛ قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "واستدلُّوا به على عدم جوازِ السفر للمرأة بلا محرَمٍ، وهذا إجماعٌ في غير الحجِّ والعُمرة، والخروجِ من دار الشركِ".
ونقل النوويُّ عن القاضي عياض قوله: "واتفق العلماءُ على أنه ليس لها أن تخرُجَ في غير الحج والعمرة إلا مع ذي محرَم، إلا الهجرةَ من دار الحرب؛ فاتفقوا على أنَّ عليها أن تهاجِرَ منها إلى دار الإسلام، وإن لم يكن معها محرَمٌ".
أمَّا بالنسبة للإقامة في تركيا، والسكن والمبيت في المكان المعدِّ للطالبات، فلا يُشترط وجودُ محرمٍ معكِ إذا وصلتِ إلى مقرِّ إقامتك بالجامعة؛ لأن المحرَمَ إنما يُشترط في السَّفر لا في الإقامة، ولا حرج على المرأة أن تَبِيتَ في غير بيتِها، كأن تبيتَ في السَّكن المعدِّ للطالبات في الجامعة، بشرط أن يكونَ ذلك بإذن وليِّها، وتكونَ ملتزمةً بالحجاب الشرعي وآدابه في خُرُوجِها، ويكونَ المكان الذي تبِيتُ فيه مأمونًا من الاختلاط بالرجال الأجانب، ومن أيِّ أذًى قد يلحقُها في النَّفْسِ، أو السُّمعةِ.
وقد سُئلت اللجنةُ الدائمةُ: هل يجوز لها الإقامةُ بمفردها بدون مَحرم؛ من أجل تعلُّم الطِّبِّ؟ وإذا كانت إقامةً في وسَطِ جماعةٍ من النساء مع الظروف السابقة؟ فأجابت: إذا كانت إقامتُها بدون محرَمٍ مع جماعةٍ مأمونةٍ من النساء، من أجل تعلُّم الطِّبِّ أو تعليمِهِ، أو مباشرةِ علاجِ النساء جاز، وإن خَشيتِ الفتنةَ من عدم وجود زوجٍ، أو محرمٍ معها في غربتِها، لم يجُزْ، وإن كانت تُباشرُ علاجَ رجالٍ لم يجُزْ إلا لضرورةٍ مع عدم الخَلوةِ.