السؤال: أنا طالبة جامعيَّةٌ، عندما التحقتُ بالجامعة لم تكنْ عندي أحلام ولا آمال في الحياة، وعندما وصلتُ إلى السَّنة الثالثة، وجدتُ نفسي متفوقةً في دراستي، ودرَّس لي أستاذٌ فاضلٌ، أُعْجِبتُ بطريقته في التدريس، وبأخلاقه؛ فبدأتُ أحاول أن أتخذه قدوةً لي في كلِّ شيء، وبدأتُ أبحث عنْ سيرته الذاتية؛ لأطبقها، وأنجح، وأحلم؛ كما فعل، ونجحتُ والحمد لله ولكنْ قويتْ علاقتي بهذا الأستاذ؛ لأنه ساعدني في الكثير مِن الأشياء؛ لأبدأ طريق النجاح، حتى أصبح هو مصدري ومرجعي الوحيد في كلِّ خطوة أفعلها، ومن الناحية العاطفية لا أجد أي مشاكل، لكني أشعر بالخوْفِ؛ لأني لم أدخلْ في علاقة مِن هذا النوع مِن قبْلُ، فهل كلامي وأسئلتي له بكثرة في الهاتف والإنترنت والجامعة يُغضب الله؟ وماذا أفعل بعدما أصبحتُ لا أجد مَن يفيدني في أيِّ مكانٍ غيره، وأصبح سببَ نجاحي الوحيد؟
الإجابة: الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فإنَّ إدراك حُسن الحَسن وقُبح القبيح مِن أعظم اليقينيَّات المعلومة بالعقل؛ فالتَّصديقُ مسبوقٌ بالتصوُّر؛ فبني آدمَ كلُّهم يقولون: إن نُفرة المرأة عن الرجل الأجنبيِّ شيء حَسَنٌ وجميلٌ، وصاحِبتُه تستحقُّ المدح والكرامة، وإنه محبوبٌ للفطرة؛ يحصُل بوجوده لذةٌ وفرحٌ نافعٌ لصاحبه ولغير صاحبه، وإنَّ الاختلاط بالأجانب قبيحٌ مذمومٌ سيئٌ، وصاحبُه يستحق الذَّمَّ واللوم والإهانة، وبداهةُ العقل تُدرك أنه ضارٌّ لصاحبه، ولغير صاحبه، وأنه بغيضٌ يحصُل به الألمُ والغمُّ، وما تتعذَّب به النفوس، فإن حصَلتْ سعادةٌ، أو تنعَّم للنفس به فلأمرَيْن؛ إمَّا تغيُّرُ الفطرةِ، وتبدُّلُها، أو اللذة العارضة الآنيَّة التي يعقبُها الغمُّ والندمُ والحسرة؛ إن رجعت للقلب الحياةُ؛ كما قيل:
وكَمْ مِن عائبٍ قولًا صحيحًا *** وآفَتُهُ مِن الفَهْمِ السَّقيمِ
وقال الآخر:
مَن يهُنْ يسهلِ الهوانُ عليه *** ما لجُرحٍ بميِّتٍ إيلامُ
وأصدقُ مِن هذا كلِّه قولُه تعالى: {
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63]، وقوله تعالى: {
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110].
فالإنسانُ يجدُ مِن نفسِه لذةَ العِفَّةِ، ويُسَرُّ بها، ما لا يجده مِن الاختلاط، ويجد الناس في نفوسهم محبة لمن فعل ذلك، وثناءً عليه، ودعاءً له، ونحن مفطورون على محبَّة ذلك، واللذة به، ولا يُمكننا دفع ذلك مِن أنفسنا إلا بالجحود باللسان فقط؛ كما فُطِرنا على وجود اللذة بالأكل والشُّرب، والألمِ بالجوع والعطَش، وهذه أيتُها الأختُ الكريمة قضايا يقينيةٌ، معلومةٌ بالحسِّ والعقل؛ كالتجربة وغيرها؛ ولذلك قال الصادق المصدوقُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "
الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ، اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ؛ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً؛ إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ" [متفق عليه من حديث النعمان بن بشير].
فقفي مع نفسكِ وقفةً صارمةً؛ لتعرفي ما الذي سهَّل للشيطان أن يزينَ لقلبك هذا، ويرغِّبَكِ فيه، ولعلَّكِ تُدركين أن السبب بلا أدنى شكٍّ البيئةُ الدِّراسيةُ التي تعيشينها، وجرأتُك في الكلام معه، وإقناعُ نفسكِ أن هذا هو السبيل الوحيد، وكل ما أخشاه أن تقعي في معصيةٍ أكبر وأكبر، فالشيطانُ لا يقفُ بالإنسان عند حدٍّ معين، وإنما يتمادَى ويتمادَى، وأنتِ في عمر الزُّهور المتفتحةِ الريانةِ مَطمَعٌ لكلِّ أحدٍ من شياطين الإنس والجنِّ، وخبرتُكِ ضعيفةٌ إن لم تكن معدومة؛ خاصةً وإن سهُلتِ المعصيةُ، وسهَّلْتِها على نفسكِ، وفتحتِ أبوابها، فهذه هي خطواتُ عدوِّ اللهِ وعدوِّنا؛ الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، وقولُكِ يؤكدُ ذلك: "لي أستاذٌ فاضلٌ، أُعْجِبتُ بطريقتِه في التدريس، وبأخلاقه؛ فبدأتُ أحاول أن أتخذه قدوةً لي في كلِّ شيء، وبدأتُ أبحثُ عن سيرته الذاتيَّة؛ لأطبقها،... ولكن قويتْ علاقتي بهذا الأستاذ؛ لأنه ساعدَني في الكثير من الأشياء...، وماذا أفعل بعدما أصبحتُ لا أجد مَن يفيدني في أيِّ مكان غيره، وأصبح سببَ نجاحي الوحيد"؛ فكلُّ هذا الكلامُ يفيدُ أنكِ أمكنتِ مِن نفسكِ، وإنكِ مِن قِبَلِكِ أُتِيتِ؛ فـ "يداكِ أوْكتا وفُوكِ نفخَ".
فتداركِي الأمر؛ فالدِّراسةُ ليستْ غايةً في حدِّ ذاتها، بل هي إحدى الوسائل إلى بلوغ غاياتٍ أسمى وأجلَّ، فإن وُجِدَ ما يُخِلُّ بأحكام الدِّين والشرع والخلُق القويم، فلا إذًا، ولا نُساوم على ديننا وقيَمنا، وصدَق الله العظيم: {
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، {
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وأنتِ بين عدوَّيْنِ؛ الشيطانِ، وتزيينِ المعصيةِ لكِ، فاحذري رعاكِ الله مِن الاختلاط بهذا الأستاذ في الدِّراسة؛ فإن هذه الخلطة تفسِدُ القلب، وتُعِينُ الشيطان، وإياكِ والنظرةَ؛ فإنها سهمٌ مسمومٌ مِن سهام إبليس، ولا تسترسلي في التفكير فيه؛ فهي خاطرةٌ، ثم فكرةٌ، ثم نظرةٌ، ثم كلمةٌ، ثم لا تدرين ما يحصُل بعد ذلك؟
وابحثي عن وسائلَ أخرى تُغنيكِ عنه، وتعينُكِ على التعلُّم، والثقافة، وما أكثرَها في عصرنا! ومن طلبَها وَجَدَها، وقد ذكَر الله في قرآنه العظيم الأسبابَ التي يُنالُ بها رزقُه؛ من علمٍ ومالٍ وغير ذلك؛ فعلينا أن نسعى فيه بالأسباب التي يسرها الله وأباحها؛ قال تعالى: {
وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2، 3]، وقال: {
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
أسألُ اللهَ العظيمَ ربَّ العرشِ العظيمِ، أن يُلْهِمَكِ رُشْدَكِ، ويُعيذَكِ مِن شرِّ نفسكِ، ويُريَكِ الحقَّ حقًّا، ويرزُقَكِ اتِّباعه، ويُريَكِ الباطلَ باطلًا، ويرزُقكِ اجتنابه.