السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بداية أشكركم على هذا الموقع الرائع، وأرجو أن أجدَ ضالتي وحلاًّ لمشكلتي لديكم.
أنا متخصصة في مجال الطب، ومنْ أسرة تتكوَّن من خمس بنات، وثلاثة أولاد، وأنا الوسطى في البنات، درستُ في بلد بعيدٍ عن أهلي، وتحملت المسؤولية بعيدًا عنهم مع أخواتي، إلى أنْ أكْمَلْتُ دراستي، وحصلْت على المرتبة الأولى. والحمد لله رغم الفتن المحيطة بي، لكن حافظتُ على ديني وأخلاقي - بحمد الله - وهذا بفَضْل الله أولاً، ثم التربية الإسلامية التي تلقيتها في مدارس السعودية. توظفتُ منذ تخرُّجي في البلد الذي درستُ فيه؛ لأننا لَم نتمكَّن أنا وأخواتي من العودة إلى أهلنا بسبب الحصار والحرب في البلد الموجودين فيه.
المهم أننا بعد عناءٍ استطعنا العودة إلى أهلي، وتركتُ عمَلي عند وُصُولنا، فتقدَّم لخطبتي اثنان: أحدهما: ابن خالتي، وهو في بلد آخر، لا أعرف عنه غير أنه غير متعلم، وثريٌّ، ويعمل مدير شركة في الأردن، وتقدَّم لخطبتي مديرُ المستشفى الذي كنتُ أعمل فيه، وهو متعلم ومتدين، وعلى خُلُق عالٍ، فالأنسب لي بالطبع المتعلِّم، وأنا رفضتُ ابن خالتي؛ لأنه غير متعلم، لكن أهلي لَم ينظروا إلا للمظاهر المادية، وأجبروني على ابن خالتي، فاستخدموا معي كل وسائل الضغط النفسي؛ من ضرب، وإهانة، إلى أن أخذوني إجبارًا إلى المحكمة، وعقد الشيخُ العقد، وهو ينظر إليَّ، ويعلم أنني غير مُوافقة، وَلَم يسألني القاضي هل أنا مُوافقة أو لا!
أنهوا كل شيء، وطلبوا منِّي التوقيع تحت تهديد والدي، أنا الآن مخطوبة لابن خالتي، وزواجي بعد أربعة شهور، ولا أشعر إلا بالأسف على نفسي والحزن والضيق الشديد؛ لأني عندما أحادثه أشعر بالفرْق الكبير بيني وبينه في الفكر، وفي كل شيء! لا أعرف ماذا أفعل؟ حاولتُ معه، وقلتُ له: إنني لا أريده قبل العقد وبعده، لكنه لَم يُوافق على تركي وشأني.
أرجو منكم النصيحة؛ لأنَّني أشعُر بالضياع.
الإجابة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبه ومن والاه، أما بعدُ:
فلقد فرَّطتِ في حقكِ الذي أعطاك الإسلام إياه؛ حيث جعل رضا المرأة شرطًا في صحَّة الزواج، ومنع الآباء من إجبار بناتهن على الزواج بمَن لا تريده، ولا ترغب فيه، وأوجب على الأولياء احترام رأي المرأة وتعاوُنهم معها في اختيار الزوج المناسب، فالولي بتجاربه الحياتية وعقلانيته يستطيع النظر في مصْلحة المرأة، والنظر في حُقُوقها المادية، ويوجه عاطفتها الوجهة الصالحة في حُسن الاختيار، لا أن يستأثر بالرضا بدلاً عنها.
حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: «
لا تُنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن»، قالوا: "يا رسول الله، وكيف إذنها؟" قال: «
أن تسكت» (رواه البخاري ومسلم، من حديث أبي هريرة). وفيهما عن عائشة قالت قلتُ: "يا رسول الله، يستأمر النساء في أبضاعهن؟" قال: «
نعم»، قلت: "فإن البكر تستأمر فتستحيي فتسكت"، قال: «
سكاتها إذنها»، وهو دليل على تحريم إجبار الأب لابنته البكر على النكاح، وغيره من الأولياء بالأولى؛ كما قال الصنعاني في "سُبُل السلام". وروى مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «
الأيم أحق بنفسها من وليِّها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها»، وفي رواية: «
الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأذنها أبوها في نفسها وإذنها صماتها»، وروى أحمد أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «
أشيروا على النساء في أنفسهن» (صححه الألباني).
وقد ورد في السُّنَّة المشرَّفة ما يدل صراحةً على بطلان عقد نكاح المجبَرة، وأنها تخيَّر؛ فعن بريدة بن الحصيب، عن أبيه - رضي الله عنهما - قال: جاءتْ فتاة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالتْ: "إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته"، قال: فجعل الأمر إليها فقالتْ: "قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردتُ أن تعلِّمَ النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء"؛ (رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه). وروى البخاري عن خنساء بنت خذام الأنصارية أن أباها زوّجها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فردَّ نكاحه؛ أي: فسخه وفرّق بينهما. ورواه النسائي عن جابر: أن رجلاً زوَّج ابنته وهي بكر من غير أمرها, فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - ففرق بينهما، وعن ابن عباس: أن جارية بكرًا أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: "إن أبي زوجني" - وهي كارهة - فرد النبي - صلى الله عليه وسلم – نكاحها؛ (رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).
فالعلةُ التي أبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - النكاح من أجلها في هذه الأحاديث، وعلق عليها التخيير - هي كراهتها للزوج، وهو حكمٌ عام لعموم علَّته، فأينما وجدت الكراهة يثبت التخيير للمرأة. وأيضًا فإن إجبار الفتاة على نكاح من لا تريده يعدُّ حجرًا عليها، وهو مخالِفٌ لقواعد الشرع الصحيح والعقل الصريح، ومعلوم أن مناط الحجر هو الصغر أو الجنون أو السَّفَه، وأنتِ بالغة عاقلة رشيدة، فلا يجوز لأبيك التصرُّف في نفسك، ويزوجك من شخص لا ترغبينه، ويرفض من تريدين، فهذا غاية المضرَّة، ويخالف مقصدًا من أهم مقاصد الدين الحنيف، وهو حصول الألفة والمودة والاستقرار والاستمرار للحياة الزوجية.
قال الشيخ العثيمين في "مجموع فتاواه": مِنْ حُسن التنظيم الإسلامي ودقته في شرع الأحكام أن جعَل للعقود شروطًا بها، وتتحدد فيها صلاحيتها للنفوذ والاستمرار، فكلُّ عقد من العقود له شروط لا يتم إلا بها، وهذا دليل واضح على إحكام الشريعة وإتقانها، وأنَّها جاءتْ مِنْ لدُنْ حكيمٍ خبيرٍ، يعلم ما يصلح للخلق، ويشرع لهم ما يصلح به دينهم ودنياهم، حتى لا تكون الأمور فوضى لا حدود لها. ومن بين تلك العقود عقد النكاح. فعقد النكاح له شروطٌ، منها:
رضا الزوجين: فلا يصح إجبار الرجل على نكاح من لا يريد، ولا إجبار المرأة على نكاح مَن لا تريد؛ فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تزويج المرأة بدون رضاها، سواء أكانت بكرًا أم ثيبًا، إلا أن الثيب لا بُد من نطقها بالرضا، وأما البكر فيكفي في ذلك سكوتها؛ لأنها تستحي من التصريح بالرضا. وإذا امتنعت عن الزواج، فلا يجوز أن يجبرها عليه أحد، ولو كان أباها؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «
والبكر يستأذنها أبوها»، ولا إثم على الأب إذا لَم يزوجها في هذه الحال؛ لأنها هي التي امتنعتْ، ولكن عليه أن يحافظَ عليها ويصونها، وإذا خطبها شخصان، وقالت: أريد هذا، وقال وليُّها: تزوجي الآخر، زوجت بمن تريد هي، إذا كان كفْئًا لها، أما إذا كان غير كفْء، فلوليها أن يمنعها من زواجها به، ولا إثْم عليه في هذه الحال".
وقال في موضع آخر: "وإن تقدَّم رجلان، كلاهما ذو خلق ودين، فرضيت بأحدهما، ورفضت الآخر - فتُزوج بمن اختارته، وإن أبَى الولي، فإن أجبرها على الزواج من الثاني الذي رفضتْه، فالنكاح فاسد، ولا تحل به المرأة للزوج؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تنكح البكر حتى تستأذن، فإن زوَّجها وليها وهي كارهة، فهذا ليس عليه أمر الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود، فيجب فسخُ النكاح، وتعود المرأةُ إلى حرية نفسها حتى ييسّر الله لها مَن تتزوجه، وإنما يخالف هواها إذا مالت لمن لا يرضى دينه ولا خلقه، فلا تُطاع وإن بقيت بدون زواج، وكذلك لا تجبر المرأة على مَن لا تريد، وإن كان ذا خلق ودين". اهـ. بتصرف يسير.
والحاصل أن استبداد الولي باختيار الزوج وانفراده بالعقد، وإجبار وليته على ذلك - جنايةٌ على المرأة، واستهانة بعواطفها وإحساسها، وإهدار لرأيها الذي اعتبره الإسلامُ جزءًا مِن تكريمه إياها بعد إهانات الجاهليات القديمة والحديثة، ولا شك أنَّ إهمالَ ذلك له تأثيرٌ مدمِّر على البيت المسلم، وعلى استقرار الحياة الزوجية، ويفضي غالبًا إلى استحالة العِشْرة بين الزوجين التي تقوم أول ما تقوم على المودة والرحمة والألفة، حتى إن الله تعالى قد ذَكَر وهو يُعدد آياته الدالة على انفراده بالإلهية وكمال عظمته، ونفوذ مشيئته، وقوة اقتداره، وجميل صنعه، وعجائب خلقه، ومعجزات وخوارق التكوين، وسعة رحمته وإحسانه - ذكر أنه خلق لعباده أزواجًا متناسبة متشاكلة، جالبة للمودة؛ ليحصل الاستمتاع واللذة والمنفعة والسكون؛ قال تعالى: {
وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الروم: 21]. فالله تعالى هو مَن يودع في النفس البشريَّة العواطف والمشاعر، ويجعل في الزواج سكن النفس، وراحة الجسم والقلب، واستقرارَ الحياة، وأنس الروح، أو ينزع سبحانه ذلك كله، ويجعل نقيضه من التنافر الجالب للهم والغم.
قال الأستاذ سيد قطب: "والتعبير القرآني اللطيف الرفيق يُصور هذه العلاقة تصويرًا موحيًا، وكأنما يلتقط الصورة من أعماق القلب وأغوار الحس: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}، {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، فيُدركون حكمة الخالق في خلق كل من الجنسَيْن على نحو يجعله موافقًا للآخر، ملبيًا لحاجته الفطرية: نفسية، وعقلية، وجسدية؛ بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار؛ ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودة والرحمة؛ لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر".
وننصحكِ إذا كنتِ تجدين نفرة شديدة ممن أجبرتِ على الزواج منه، فافعلي كما فعلتْ تلك الصحابية الجليلة، بمحاولة إقناع والديكِ بما جلبه عليكِ من شقاء، ولتستعيني على ذلك بكل مَن يرجى له تأثير على أسرتك من قريب أو كبير، ليضغطوا على الوالد ليحلكِ مِنْ تلك الزيجة، كما عليكِ أن تخبري ذلك الرجل بمشاعرك تجاهه، ولتنصحيه على أن يترككِ، فإن تعسرت تلك المساعي، فارفعي أمرك للمحكمة، ولا تستسلمي ما دام الأمر كما ذكرتِ.
هذا؛ وإن كنتُ أحب أن أنبهك إلى أمر مهم، وهو: أن الأبوين قد جبلا على حب المصلحة لأبنائهم، وهذا أمرٌ يشْهد له الحس والواقع والتجارب الحياتية، والغالب على اختيارهما الصواب عن اختيار البنت لنفسها، ولذلك فإنَّا ندعوكِ لإعادة التفكير في المسألة من جديد، وأن تبحثي عن خطوط مشتركة بينك وبين من أجبروكِ على زواجه، وأوجه إيجابية فيه، فربما تبيَّن لك أنه الأصلح، فإن لَم تجدي لذلك سبيلاً، فعليك بما ذكرناه آنفًا.
وراجعي على موقعنا الفتويين: "
الكفاءة في التعليم بين الزوجين"، "
الكفاءة النَّسَبيَّة في النكاح". والله أسأل أن يقدر لك الخير حيث كان، وأن يلهمكِ رشدك، وأن يعذك من شر نفسك، آمين.