الطوفان العظيم The Great Flood
للباحث : د. محمد بن إبراهيم إبراهيم دودح
د. محمد دودح المستشار العلمي بالهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة
ثارت البراكين كتنور كبير، وهطل مطر غزير، وانفجرت الأرض عيونا بماء وفير، وتحولت السيول لفيضان كبير، وهاجت الأمواج وأصبحت كالطود تكتسح كل عمران ولا تبقي للقاطنين من أثر، وفي خضم الأمواج العاتية مرت سفينة عظيمة أعجوبة في زمانها تمخر العباب بلا أشرعة، حوت قلة من العابدين لتبلغهم بر الأمان، وحاول من كانوا بالأمس ساخرين اللحاق بالناجين، ولكن لم يحمهم من الغرق شيء؛ حتى أعالي الجبال بمنطقة الدمار، وإذا المُقَدَّر وقع؛ فمن يدفع القدر؟!
عاش القوم منعمين في جنات وارفات، لكنهم نسوا فضل المنعم الكريم، استخفوا بالتحذيرات فلم يحمهم من قدرة العلي وثن؛ وكأن المنطقة لم تكن يوما مرتعاً للمرح وساحة للتكبر والعناد، فما الذي حدث؟ إنه الطوفان العظيم.
حدث مأثور روته الحضارات القديمة، ونقله كتبة الأسفار، وتميز القرآن الكريم بدقة الوصف، ولم يتبق إلا سفينة يدفعها الطوفان لتستقر على سفح جبل آية للمعتبر في صنعها وحفظها على علمه تعالى وقدرته، قال تعالى: ﴿كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ. فَدَعَا رَبّهُ أَنّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ. فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السّمَآءِ بِمَاءٍ مّنْهَمِرٍ. وَفَجّرْنَا الأرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَىَ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْنَاهُ عَلَىَ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لّمَن كَانَ كُفِرَ. وَلَقَدْ تّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ﴾ [القمر 9 - ]15، قال ابن عاشور رحمه الله (ت 1393هـ): “ضمير المؤنث (في تركناها) عائد إلى (ذات ألواح ودسر) أي السفينة.. أي أبقينا سفينة نوح محفوظة.. لتكون آية تشهدها الأمم”.
وفي مايو عام 1948 كشفت الزلازل عن آثار سفينة كبيرة متحجرة مطمورة في الرواسب الطينية على سفح جبل الجودي في جنوب شرق تركيا، بالقرب من حدودها مع سوريا والعراق، اكتشفها راعي غنم اسمه رشيد سرحان من قرية أوزنجيلي Uzengili الكردية، وفي أكتوبر عام 1959 في أحد طلعات طيران الجيش التركي عاين الطيار Durupinar السفينة.
وفي عام 1960 أرسلت أول بعثة لمنطقة الأكراد الجبلية شرق تركيا لمعاينة السفينة المتحجرة على سفح جبل الجودي باستخدام تقنيات حديثة، ولا يعقل أن توجد سفينة على جبل على ارتفاع حوالي 2000 متر من سطح البحر إلا أن يرفعها شيء، وليس في الأخبار والأسفار والقرآن سوى الطوفان، وقد أثار الخبر دهشة كبيرة؛ لأن قصة السفينة عند الملاحدة أسطورة، والأسفار القانونية المعتمدة في كل الكنائس قالت: "جبال أرارات"، وقال القرآن بل "الجودي" تحديدًا وصدق، في سفر التكوين: "وتعاظمت المياه كثيرا جدا على الأرض، فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء"، "واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط" تكوين 8: 4.
وأرارات سلسلة بركانية ذات قمتين المسافة بينهما حوالي 11 كم أدناهما ترتفع حوالي 4000 متر، وأعلاهما تكسوها الثلوج وترتفع حوالي 5000 متر فوق سطح البحر؛ وهي أعلى قمة بتركيا، وتقع أرارات شرق تركيا بالقرب من حدود أرمينيا وإيران بينما يقع الجودي جنوب شرق على حدود العراق وسوريا، وحتى لو خان التعبير كتبة الأسفار فقالوا جبال أرارات بدلا عن منطقة شاسعة لحضارة قديمة تشمل جبال أرارات؛ فمن أين إذن استمد القرآن هذا التحديد الدقيق المعجز؟!
وصدق القرآن الكريم في تصوير بليغ بديع يحلو في الآذان ويهز الوجدان ويأخذ بالألباب؛ قال تعالى: ﴿وَقِيلَ يَأَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ وَيَسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيّ وَقِيلَ بُعْداً لّلْقَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ [هود 44]، ولم يبدأ الاهتمام الفعلي إلا عام 1985 واستخدمت البعثات العلمية حتى مايو 2007 تقنيات حديثة فأكدت الدراسة نبأ القرآن الكريم.
وأظهر التصوير بالرادار واستشعار المواد المعدنية تركيب السفينة من الداخل بهيئة تكوينات منتظمة غير طبيعية تؤكد أنها صنعة يد، وقد وجد الباحثون حفريات متحجرة حول السفينة لقواقع مياه عذبة ومياه مالحة ومرجان على ارتفاع لا توجد فيه بحار، واكتشفت بعض مسامير ربط الألواح الخشبية Rivets وهي عادة تطرق من الجهتين لمنع الانفلات، وتسمى اليوم براشيم Rivets وسماها القرآن الكريم "دُسُر" كاشفاً وحده تركيب السفينة قبل أن يعرف أحد شيئا عن تلك المسامير، قال تعالى: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَىَ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ [القمر 13] وأوجز الشيخ مناع خليل القطان رحمه الله (ت 1420 هـ) تفسير جمهور المفسرين بما يكاد يكون إجماعا بقوله: أي “وحملنا نوحاً ومن معه على سفينة مصنوعة من الخشب والمسامير”.
ولم يؤيد المحققون تصور كتبة الأسفار أن السفينة اتسعت لكل أزواج الحيوانات الأليفة والمفترسة في كل كوكب الأرض وأن الطوفان عالمي، ولك أن ترجح أن شحنة الحيوانات والطيور كانت من معهود المواشي والأنعام بغرض التربية في الموطن الجديد، وليست كل حيوانات الأرض؛ خاصة أن في القرآن لم يرسل نوح برسالة كافة الأنبياء إلا لقومه خاصة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ إِنّي لَكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ * أَن لاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ اللّهَ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ [هود 25-26]،
وتأخذك المشاهد غضة طرية في روعة وجلال تحشد في ذهنك شتى التصورات يشارك فيها نظم المقاطع وإيقاع الفواصل في تجسيد المضمون، قال تعالى: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظَلَمُوَاْ إِنّهُمْ مّغْرَقُونَ﴾ [هود 37]، كانت صناعة السفينة إذن آية على عناية الله استنفذ فيها نوح وفريقه كل مهارات عصره، ولكنه بالوحي فاق عصره في التقنية، وقال تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التّنّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظَلَمُوَاْ إِنّهُمْ مّغْرَقُونَ﴾ [المؤمنون 27].
وتنور الحطب هو موقد الخبز عند الشعوب القديمة، وما أشبه ثورة البركان بالتنور في الثوران وفوران الأبخرة، أيكون فوران التنور تمثيل خاصة أن الحدث يخص الأرض! قال سيد قطب رحمه الله (ت 1386 هـ): "تلك هي العلامة ليسارع نوح فيحمل في السفينة بذور الحياة..
وتتفرق الأقوال حول فوران التنور وتبدو رائحة الإسرائيليات فيها.. وأقصى ما نملك أن نقوله: التنور الموقد.. (وفورانه بتفجر عيون ماء حار) قد يكون بفوارة بركانية (من باب التشبيه والتمثيل)”، وقد قالوا في التفسير المراد بالتنور وجه الأرض قاله ابن عباس وعكرمة والزهري. وقال قتادة أعاليها، ويرجح التمثيل التصريح في التنزيل العزيز بتفجر الأرض عيوناً لا تنور الحطب، قال تعالى: ﴿وَفَجّرْنَا الأرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَىَ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر 12]. والمعلوم حاليا أن الأبخرة الحارة وتكثفها في الجو هي مصدر أساسي للأعاصير والمطر الغزير.
وقال تعالى: ﴿وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنّ رَبّي لَغَفُورٌ رّحِيمٌ﴾ [هود 41]، كانت السفينة إذن آية عظيمة؛ ليس فحسب في صنعها، وإنما أيضا في جريها في الموج بلا حاجة لأشرعة خاصة في ذلك الجو العاصف، وأما لفظ (مُرسَاها) فقد جاء عاماً ليعني رسوها آمنة رغم جريها بمراسي تحفظ توازنها، ورسوها سالمة عند وصولها بطرح مراسيها، وقد اعتاد القدماء استخدام مراسي حجرية تربط من أسفل السفينة بحبل لتستقر ويعرفوا العمق.
وسفينة نوح من الضخامة بحيث تماثل حوالي نصف سفينة التيتانك الغارقة وليست بقليلة إلى جوار حاملة طائرات فلا بد أن مراسيها كبيرة.
وفي عام 1989 اكتشف فاسولد Fasold مرساة عند قرية قريبة من موقع السفينة تدعى كازان Kazan، وقد يصل طول المرساة 2،5 متر وتزيد الواحدة عن 4 طن، وتسمى بعدة لغات أنجر وأنقر وباليونانية أنقرة وهو نفس اسم المدينة التركية، وبديهي أن تلقي السفينة مراسيها قبيل وصولها الآمن إلى مشارف سفح جبل الجودي، وشيئا فشيئا اكتشفت المراسي تباعا لترسم خط السير، وقد اكتشف حتى الآن 13 مرساة كانت تعمل كأثقال لتثبيت السفينة وهي اليوم ترشد لخط السير نحو المناطق الجبلية الشرقية لتستقر السفينة قرب مدينة قديمة كانت تسمى ناكسوان Naxuan وتعني بالإغريقية مدينة نوح.
وقال تعالى: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىَ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَبُنَيّ ارْكَبَ مّعَنَا وَلاَ تَكُن مّعَ الْكَافِرِينَ* قَالَ سَآوِيَ إِلَىَ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاّ مَن رّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ [هود 42-43] والتعبير (في موج) يؤيد أنها ضمن حركته بلا حاجة لأشرعة، ولم يتبين لنا كم تكون الأمواج مدمرة تطاول الجبال في النظر إلا مع موجات مد التسونامي وهي أيضا كلمة تعني الأمواج العاتية، وقد افترض فاسولد Fasold أن الفيضان الذي أغرق قوم نوح يرجع غالبا لحدث فلكي مثل سقوط قطعة مذنبية ضخمة تسبب في نشاط بركاني واسع، ودفع مخزون المياه الجوفية، وتحريك أمواج البحر لتدفع السفينة باتجاه المناطق الجبلية، وتكتسح كل المناطق الساحلية وتدمرها، ووفق التوقعات الفلكية لو سقط في المحيط مذنب ثلجي بحجم ملعب كرة فسيؤدي إلى تخريب واسع لمعالم الساحل، ومع تبخره نتيجة للاحتكاك وتحول الأبخرة لسحب يضيف مطرها الغزير والعواصف المصاحبة مزيدا من التخريب، ولا ننسى مشاهد ربع مليون ضحية في عام 2004 نتيجة لأمواج زلزال بالمحيط، فما بالك إذا نجمت الأمواج عن رجم نيزكي معتبر!
وقد اكتشف باحثون على عمق كبير في البحر الأسود آثار منطقة سكانية غارقة، وقدموا أدلة على أن البحر الأسود كان في الأصل بحيرة عذبة، ونتيجة لحدث ضخم انفتحت القناة بينه وبين البحر الأبيض، مما يرجح فرضية الرجم النيزكي، وقد أدت الأبحاث الجيولوجية في مناطق بلاد ما بين النهرين إلى اكتشاف طبقة من الطمي تفرق بين آثار حضارات قديمة تحتها، وآثار حضارات أحدث فوقها، مما يؤكد حدث الطوفان، ويبرهن على الوحي في بيان القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـَذَا فَاصْبِرْ إِنّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتّقِينَ﴾ [هود 49]، وهكذا لم تخبرنا روايات كتبة الأسفار قط عن نبأ حفظ السفينة آية للعالمين بينما أكده القرآن الكريم تأييدا لخاتم النبيين، قال تعالى: ﴿فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لّلْعَالَمِينَ﴾ [العنكبوت 15]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ تّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ﴾ [القمر 15]، فاق البيان المعجز إذن أفق كل المعارف في بيئة التنزيل، وتناول بالتفصيل أحداث تتعلق بآثار مطمورة لم يكن لأحد العلم بها زمن التنزيل، يقول العلي القدير: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوّلَهُ بَل لاّ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ﴾ [الطور 33-34]. أ.هــــ
المراجع:
• المكتبة الشاملة (آلاف المراجع الإسلامية).
• الموسوعة البريطانية وموسوعة إنكارتا.
• الشبكة الدولية للمعلومات (الانترنت).