ثلاث تعظم بهن الصغائر
كثيرا ما نستهين بصغائر الذنوب , وننسى أنها قد تجتمع على الرجل فتهلكه , وقد انتشر بين الناس كثيرا أن الذنب مادام صغيرا فلا خوف ولا حمل لهمه فإنه ولاشك ذاهب وهو مكفر بالطاعة .
ولاشك أن الذنوب نوعان صغير وكبير , يقول ابن القيم رحمه الله : " الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر بنص القرآن والسنة وإجماع السلف وبالاعتبار " "مدارج السالكين"
والذنوب الصغيرة بالفعل تكفر بالطاعات وباجتناب الكبائر مع التقوى , قال سبحانه : قال الله تعالى : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم :" رمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة والصلاة إلى الصلاة مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر " ..ومثاله من الأحاديث
لكن هناك أمورا ذكرها العلماء تعظم بها الصغائر وتكبر ويثقل اثرها على قلب المرء ونفسه حتى تهلكه وحتى تكبه على وجهه , فقد روى أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ ) .
وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا : ( كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا فَأَجَّجُوا نَارًا وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا ) . صححه الألباني في "صحيح الترغيب"
فأولها ظن المرء أن ذنبه لا يغفر , وبالتالي فهو ييأس من المغفرة , وهو حينئذ يبحث لنفسه عن قناعة ذاتية بالاستمرار على الذنب , بل وفي بعض الاحيان يستحبه , وربما وصل به إلى استحلاله .
ومما لاشك فيه أنه لا ذنب يستعظم على رحمة الله ومغفرته , فهو سبحانه يقول " ورحمتي وسعت كل شىء " , ويقول سبحانه :" قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم " .
لكن الشيطان يسعى دوما لتيئيس العاصي من التوبة والمغفرة , ويقنطه من رحمة الله سبحانه , وكثيرا ما رأينا ذلك من الناس الذين يتركون أنفسهم نهبا للشيطان , ويدعون قلوبهم في غفلة عن ذكر الله وعن الصلاة
والثاني احتقار الذنب واستصغاره , فإذا به يرى ذنبه صغيرا حقيرا لا أثر له , فعندئذ يتجرأ على الاكثار منه , بل قد يتجرأ على المجاهرة به , وربما تجرأ على الثبات عليه كذلك .
والمؤمن في ذلك يجب ألا ينظر إلى ذنبه كم هو صغير , بل عليه أن ينظر إلى عظمة ربه العظيم الذي أمره فقصّر , ونهاه فغفل ووعظه فأهمل , لذا يقول بلال بن سعد " لاتنظر إلى صغر معصيتك , ولكن انظر إلى عظمة من عصيت " , وفي صحيح البخاري قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :" إنكم لتعملون أعمالا هي في أعينكم مثل الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات "
وأما الثالث فهو الإصرار على الصغيرة , وما للإصرار سبب إلا الغفلة والجهل وقلة الحياء منه سبحانه , فالغفلة تنسيه كونه مقيم على المعصية , والجهل يقلل في عينيه قدر الذنب , فهو يراه شيئا لايستحق المعاناة في الترك , ولا المجاهدة في الإقلاع عنه , ولا السعي للندم عليه .
فما يزال في حلقه حلاوته , ولايزال في قلبه الرغبة في تكراره , وقلة الحياء منه سبحانه تجعله يكرره ولايبالي , فهو يصر عليه بصورة شبه رتيبة , فالبعض له ذنب يأتيه يوميا والبعض يكرره في اليوم مرات وهكذا
قالَ الْقَرَافِيُّ : الصَّغِيرَةُ لَا تَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ وَلَا تُوجِبُ فُسُوقًا , إلَّا أَنْ يُصِرَّ عَلَيْهَا فَتَكُونُ كَبِيرَةً . . . فَإِنَّهُ لَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ , وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ كَمَا قَالَ السَّلَفُ . . . وَيَعْنُونَ بِالِاسْتِغْفَارِ التَّوْبَةَ بِشُرُوطِهَا , لَا طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَزْمِ " "الموسوعة الفقهية"
وقال ابن القيم رحمه الله : " الإصرار على الصغيرة قد يساوي إثمه إثم الكبيرة أو يربى عليها " "إغاثة اللهفان"
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " " إذا أصر الإنسان على الصغيرة وصار هذا ديدنه صارت كبيرة بالإصرار لا بالفعل " لقاء الباب المفتوح