لايمنعن أحدكم مخافة الناس ..
عندما نفقد احترامنا وتقديرنا لذواتنا وقيمتنا الإنسانية, لا نهتم حينها بما يصدر منها من مواقف سلبية, مادام هدفها الأول هو الحفاظ على كينونتها سالمة بلا ضرر, والحفاظ على لقمة عيشها المشبعة, وكسبها المادي الوفير, ومسكنها المرفه ومتكأها الوثير .
تلكم حالة النفس الضعيفة, المقهورة, الذليلة, التي تظل عمرها كله تجري وراء الراحة وتبذل جهدها المقدور رجاء البقاء, ثم ترحل غير مأسوف عليها, فلا يذكرها أحد, ولا يرعى لها التاريخ ذكرا .
إن نفوسنا في حينها تنسى كثيرا من القيم والمبادئ التي هي واجبة عليها, وتغفل عن كثير من معاني الحياة الكريمة التي خلقت من أجلها .
إنها تنشئ في ذاتها الخوف, وتزرع في طريقها ألف خوف مثله, تكسر قدرتها على الصمود أمام الظلم, وتعود ناظريها على التغاضي عن الباطل, وتدرب جوارحها على الاستكانة أمام القهر .
إنها في كثير من الأحيان تسجن منطق الحق البادي من عقلها, وتقيد مفاهيم الصواب, وتزج به في غياهب نفسية داخلية, فتمنعه عن التعبير, وتقمع لسانه عن الحديث عنه أو التلفظ بعباراته .
فقد أرعب الخوف جوانبها, وسيطر الذل على مقاليد قلبها, فلم يعد ينبض سوى بمعاني الرضا بالواقع المرير أيا كان, ولم تعد دماؤه تتدفق في عروقها سوى بحروف الخور والتراجع والهزيمة, غير عابئة بقيم العدل والحق والإيمان .
إن هذه الصورة القاتمة قد صارت منتشرة من حولنا, حتى إنك لتحسب أنها الأصل في كثير من الأشخاص الذين تقابلهم, أو الشركات التي تتعامل معها, أو المنتديات التي تزورها, فتُكذب في بعض الأحيان نفسك, وتتهم فكرتك – الداعية للإصلاح - بالتهور وضيق العقل وقلة التجربة .
ربما تزيد الظاهرة في بعض البلاد دون الأخرى وتتنامي في بعض الظروف دون غيرها, لكن المرض يبقى هو الأشهر عبر الأقطار الإسلامية بعمومها .
تستطيع أن تلحظ ذلك في حال كثير من العاملين المطحونين في مصانعهم أو مؤسساتهم, الذين ظلوا سنين طويلة بلا راتب مجز ولا مكافئ لجهدهم, وبلا ترقية في مناصبهم, ولا تحسينا في أحوالهم الوظيفية, لكنهم رغم ذلك يصابون بداء الخرس في ألسنتهم, فلا يطالبون رب العمل بحقوقهم, ولا ينادون بتحسين أجورهم والحصول على مكافآتهم, بل تراهم يتجرعون في كل يوم كأس المرارة التي بدت علاماتها على محياهم, واستحالت تجاعيد على جباههم .
وتراه في في رجل الشارع الذي يرى السارق الذي يسرق, والبائع الذي يغش, وشرطي المرور الذي يرتشي, والشباب والفتيات بسلوكياتهم الشائنة, والأطفال تنتهك براءتهم, ولسانه أخرس, ويده شلاء, فينسحب بهدوء مطأطئ الرأس للواقع الضاغط, ويكرر مسيرته كل يوم في ذات الطريق, فتعتاد عيناه على المنظر, ويستسيغ حالة الانكسار .
وفي كثير من المؤسسات أيضا يصيبنا داء الخرس ونحن نعاين فيها الإهمال, وسوء المعاملة, والسلطوية الغاشمة, والرشوة المنتشرة, وضياع قيمة الإنسانية, وإغفال حقوق الناس ومصالحهم ومنافعهم, فنرتضي فيها بإهدار الكرامة في مقابل إنهاء المصالح, فيتعاظم الفساد, ويزداد أهله إصرارا ..
وتستطيع كذلك أن تراه في طبيعة طلاب في مدارسهم وجامعاتهم, يرتضون من أستاذهم الإهمال وقلة العطاء, وعدم الإتقان, وسوء الخلق, ولا يجترئون على طلب حقهم عنده, ولا معاتبته في ذلك, بل إنهم ليشاركون في المهزلة التعليمية بأنفسهم فينهون سني تعليمهم ولم يستضيئوا بنور علم, ولم يتعلموا أن يشعلوا مصباح هدي, بل إنهم ليشاركون في رفع صوت الضجيج المغيب بحناجرهم .
وقد تراه في حال امرأة في بيتها, أدمى عينيها ظلم الزوج القاسي, وجرح إنسانيتها بسبابه المؤلم, وتطليقاته المتكاثرة, حبسها, فلا هو يؤديها حقوقها, ولا هو يتركها تستبصر الطريق, وبينما هو يعيش الغواية ولحظات الاستمتاع, يصيبها الرعب من نظراته, وتصمت هي على تجاوزاته, ولا تجترئ على مجرد معاتبته والوقوف معه على عتبة الإصلاح .
إننا أيضا نراه في آباء ربوا أبناءهم على الجبن أمام كل ظلم, والخوف والهلع من كل تهديد, والانكسار بين يدي أي وعيد, مهما كان خاطئا أو ضالا, بهدف الحرص على الرزق والكسب وغيره .
حتى إنك لتراه جليا بين المتصوفة وشيوخهم , إذ يرتضون بأخطاء الشيخ وتجاوزاته, ويسكتون على تدليسه وتهويمه, وربما مراءاته, ومداهناته, وأمراضه النفسية الفتاكة, ويصيبهم الخرس أمامه بينما يحرص على الشهرة والكسب والتضخم المادي, والطلاب المغيبون يسمون ذلك دعوة وجهدا وعطاء, ويرتضي الواحد منهم بتقبيل يده منكسرا طالبا منه الرضا والدعاء !
ولم تسلم بعض جماعات الدعوة والمحيطين ببعض الدعاة من مرض الخرس أيضا , فنرى بعضهم يسكت أمام أخطاء الدعاة والقادة وحرصهم على التحزب , والنزاع والخلاف وتصلب الآراء , وإبعاد الطاقات والكفاءات , بل قد يتطور ذلك إلى الوقوع في الجرم الشرعي بالسعي لحرب المخالف وإيقاف دعوته ودروسه العلمية وجهده وعطائه لسنين طوال !
إن هناك من خلط بين مفاهيم الرضا بالقضاء والقناعة بالمقدور وبين تشجيع الخطأ والسكوت عن المنكر, فهما ولاشك مفهومان متغايران, فالأول معنى قلبي يدفع إلى عدم التسخط, ولكن الثاني تشجيع للخطأ وسكوت عن الحق يدفع نحو فساد المجتمعات .
كذلك فهناك داء اليأس - من الإصلاح والتصويب – الذي قد يمنع اليائس من النصيحة والتقويم, بل قد يمنعه من تقويم نفسه وإصلاح أقرب الناس إليه .
آخرون في الجانب الآخر نفضوا تراب الذل عن أنفسهم, وصدحوا بالقيم العليا في كل موقف, أخذوا على يد الفاسد, ورفضوا السير في ركاب الظالم, ورسموا بقناعاتهم صورة الحياة الكريمة .
علاج الخرس
إن تلك الصور وغيرها لتحتاج منا إلى تربية ذاتية لنفوسنا, نعلمها الكرامة ومعانيها, والعزة وسماتها, والاستغناء بالله وحده عن الناس, فلا الرضا بالخطأ يزيد الرزق, ولا السكوت على الفساد ينشىء السلامة, ولا الانكباب على الذات يؤمن الطريق, فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بالحق إذا رآه ، فإنه لا يقرب من أجل ، ولا يبعد من رزق " وفي رواية للحديث :" لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يقول في حق إذا رآه ، أو شهده أو سمعه " أخرجه أحمد وابن حبان وابن ماجه .
والأمل نوع آخر من العلاج, فإن الحياة بالأمل والرجاء دوما حياة متجددة, تعالج خرس اللسان, وتفتح الطريق نحو بصيرة نافذة, وتشجع المرء على تكرار المحاولة في الإصلاح وعدم الركون إلى الفشل .
كذلك فالناس بحاجة لأنماط من القدوة يجدونها أمامهم من علماء ومعلمين ومربين وقادة الرأي في مجتمعهم, يعالجون داء الخرس بشكل تطبيقي ويرى فيهم الناس نماذج الإصلاح .
إن هذه ولاشك ليست دعوة إلى نوع من عشوائية الإصلاح, ولا ما ينتج الهرج والمرج واللغط, ولا ما يعكر السلم المجتمعي, ولا الإضرار أو الإفساد بالمجتمعات ولا بالمؤسسات ولا بالأفراد, إنما هي إلى وقفة حزم مع المخطىء والفاسد والمنحرف لتتم محاسبته بالطرائق المشروعة, ودعوة إلى علاجات لداء الخرس الذي ينخر في سفينة الأمة, وكما في صحيح البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة ، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ، ونجوا جميعا "
إن أمتنا لتستحق هذه الأوصاف الحسنة وشعوبنا تستحق تلك الحياة الراقية, ورسالتنا الإسلامية لهي أجدر بذلك الخير, فهي رمز العزة يوم غابت العزة عن العالم, وهي من علمت الكرامة يوم كانت الخسة تحتوي البشر, وكان الزور يحصد الأخضر واليابس .