أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله، فالتقوى حياةٌ في القلب، ويقينٌ بالغيب، وحالةٌ في النفس، تتبينُ منها اتجاهات الأعمال، وتتوجه بها المشاعر الباطنية والتصرفات الظاهرية، ويتّصِل بها العبد بربه سراً وجهراً. من تأمّل خطوب الأيام استغنى عن خطب الأنام، ومن سلك مسالك الاعتبار أضاءت له مصابيح الاستبصار. فتأملوا ـ رحمني الله وإياكم ـ في دروب المسير، وتذكَّروا أين المصير، وبادروا قبل هجوم الفاقرة، وشمّروا لعمل الآخرة. أيها المسلمون، ما أعْظَم جهل الإنسان حين يغرق في الوسائل ويذهل عن الغايات، ويشتغل بالقشور ويضلُّ عن اللباب. في المدنية المعاصرة تقدُّم مادي هيّأ للحياة وسائلها، ولكنه لم يَدُلَّها إلى غاياتها، زيّن ظاهرها، ولم يهدها إلى أهدافها. في الناس شعورٌ بأن العالم قد أنجز شوطاً أو أشواطاً في التقدم المادي، وقطع مراحلَ طويلة في المُحَسَّات والمشاهدات، ولئن كان هذا موضعَ تقدير واحترام وقبول، ولكنه لا يكفي. هذا العصر يُدعى عصرَ التقدم، ويُسمّى عصرَ السرعة، ويُلقَّب بعصر المدنية، ولكن هل يُسمّى عصر الفضيلة، أو يدعى عصرَ الطمأنينة، أو يُنعَت بعصر السعادة؟! علومُ هذا العصر ومادياته قدّمت للإنسان أدواتٍ كثيرةً، ولكنها لم تُعطه قِيما كبيرة، ولم تمنحه أهدافاً سامية ليحيا من أجلها، ويموت في سبيلها. الأهداف السامية والقيم المحترمة والغايات العليا ليست من وظيفة علوم المادة، ولكنها من وظيفة الدين وعلوم الدين. مدنيةُ اليوم تقوم على تعظيم المادة وحب الدنيا والاستكثار من اللذائذ وتوجيه كلِّ مخترَع ومكتشَف إلى التسابق فيها، والتنافس عليها، وجمع حُطامها، يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَـٰفِلُونَ [الروم:7]. إن الصلة بالله والإيمان بالغيب ورجاءَ اليوم الآخر لا تكادُ تُذكر في علومهم أو يظهر لها حسابٌ في أمورهم. الحياة عندهم إحساسٌ عارض يمكث في كتلة اللحم والعظم بضعَ سنين ثم يتلاشى إلى الأبد، ولقد قال أسلافٌ ضالون: مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ ٱلدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [الجاثية:24]. مدينةٌ جافة، تُعلي شأن المادة، وتنشد اللذة، انطلقوا على وجه هذه البسيطة، لا يلوون على شيء، في غرائز أشرسَ أن تنقاد لداعي الحق، إِنَّ هَـٰؤُلاَء يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً [الإنسان:27]. إن العالم في كثير من جنباته يئنّ من الفراغ الإيماني الذي تنامت فيه نوازع الأثرة والجشع والتظالم. أيها المسلمون، أيها الناس، إن النظر في سنن الله في الآفاق وفي الأنفس يبيّن أن المعيار في الإنسان يختلف عنه في وسائل الإنسان. إن مما يجب تقريره النظرَ المتوازن في العلاقة بين الإيمان والإنجاز الحضاري، والارتباط الوثيق بين هدي الله وإعمار أرض الله، والارتباط الدقيق بين التقوى والتقنية، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]. إن ثمة ربطا محكما بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ٱللَّهَ بَـٰلِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً [الطلاق:2، 3]. إن تطبيق قوانين المادة الصماء على الإنسان الحر المكلّف ذي المسؤولية والاختيار فيه خطأٌ فاحش ومجازفة مهلكة. إن ابن آدم ليس حجرا صلداً، إنه مخلوق حيّ، فيه الرغبات والأهواء، والمؤثِّرات والانفعالات، والعواطف والدوافع، وخاصية التفكر والتأمل. عباد الله، إذا كان ذلك كذلك فإن من المناسب التذكير والتأمل في ركنٍ من أركان الإيمان، ركنٍ يربط بين حقائق الإيمان وإنجازات المادة، وبين التسليم بالعجز البشري والقابلية للتطور، ذلكم هو الإيمان بالغيب، فهو من أخص خصائص الدين، ومن أدق عقائد المؤمنين. بسم الله الرحمن الرحيم: الم ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:1-3]. معاشر المسلمين، لقد منح الله بفضله وحكمته الإنسان عقلاً يعرف به ما غاب عنه بمشاهدة ما هو حاضر عنده، يعرف الأشياء بحسّه الظاهر، كما يدركها بحسِّه الباطن، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن بين الشاهد والغائب قدراً مشتركاً من اللفظ والمعنى، فالله سبحانه أخبرنا بما وعدنا في الدار الآخرة من النعيم والعذاب، وأخبرنا بما يُؤكل ويُشرب ويُنكح ـ قال رحمه الله: ـ فلولا معرفتنا بما يُشبه ذلك في الدنيا لم نفهم ما وعدنا الله به، ونحن نعلم مع ذلك أن تلك الحقائق ليست مثلَ هذه، حتى قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء)، وقد فُسِّر قول الله عز وجل في نعيم الجنة: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَـٰبِهاً [البقرة:25]، بهذا المعنى"، وقل الإمام الغزالي رحمه الله: "إياك أن تُنكر شيئاً من أمور الغيب وعجائب القيامة والآخرة لمخالفة قياسِ ما في الدنيا، فإنك لو لم تكن قد شاهدت عجائب الدنيا، ثم عُرضت عليك قبل المشاهدة لكنت أشد إنكاراً لها ـ قال: ـ وفي طبع الآدمي إنكارُ ما لم يأنس به". أيها المسلمون، الإيمان بالغيب رحمةٌ من الله ونعمةٌ يهبها بفضله لمن أخلص القلب، وتحرّى الحق، ورغب في الهدى، إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ [فاطر:18]، إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِكْرَ وَخشِىَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس:11]. إنها نعمة من الله تفيض على القلب، يمنحها الله لهذا الإنسان الضعيف الفاني محدود الأجل واسعِ الأمل. من حُرم ذلك فالحياة عنده ناقصة، والروح فيه مظلمة. الإيمان بالغيب يؤثر في الحياة تأثيراً عظيماً، ويورث في القلوب توجهاً وإقبالاً، ينقاد فيها إلى الاتباع، وتنقلب فيه الحياة من ظلام واضطراب إلى نور واستقامة، تتفتح فيها الآفاق مع رحابة في الصدور، وطمأنينة في النفوس، وجلاء في الحق، ورضا يملأ الجوانح، إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12]. بالإيمان بالغيب تسلم القلوب من أمراضها، تُوقى الشحّ والشحناء، والكذبَ والبهتان، والمكرَ والخيانة، تصان النفوس بإذن الله من الظن والاضطهاد، والقسوة والفوضى. الإيمان بالغيب من أعظم بواعث الورع والتقوى وحسن التربية. الصلاح والإصلاح ليس دافعُه بعون الله وهدايته إلا خشيةُ الرحمن بالغيب، لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ [الحديد:25]. أمة الإسلام، لقد وقف الإنسان أمام أستار الغيب المحجوب لا ينفذ إليه علمُه، ولا يقدر على كشف ما وراء المستور إلا بقدر ما يكشفه له علام الغيوب، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا هو. إن عدم إدراك الغيب لا ينفي وجودَه، ولكن على العاقل اللبيب طالب الحقيقة ملتمس الهداية أن يتلقى العلم من مصدره الموثوق وخبره الصادق، وليس ذلك إلا من العليم الخبير، قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وٱلأرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ [النمل:65]. إن محاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل الإنساني المحدود ومن دون سند الوحي والبصيرة النافذة المهتدية محاولةٌ فاشلة، بل محاولةٌ عابثة؛ إنها فاشلة لأنها تستخدم أداةً لم تُخلق لإدراك هذا المجال، وهي عابثة لأنها تبدِّد طاقات العقل التي لم تُخلق لهذا الميدان. إن التمايز بين الناس ليس بإدراك المشاهدات بالحسّ، فهذا يستوي فيه المؤمن والكافر، كما يستوي فيه الحصيف والبليد، ولكن الشأن كل الشأن في الإيمان بالغيب الذي لم نره ولم نشاهده، إذا قامت عليه الدلائل الصادقة من خبر الله وخبر رسوله وطرق العلم اليقيني الجازم، فذلكم هو الإيمان الذي يميّز المؤمن عن الكافر، لأنه تصديق لله مجرّد، وتسليمٌ لرسوله تام، مع إذعان ويقين ورضا بعد علمٍ واستدلال. فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به وأخبر به رسوله ، سواء شاهدة أو لم يشاهده، وسواء عقله وفهمه أو لم يهتد إليه فهمُه وعقله. جاء جمع من الصاحبة رضوان الله عليهم إلى رسول الله فقالوا: يا رسول الله، أي قوم أعظم أجرا؟ آمنا بالله واتبعناك، قال: ((ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم، يأتيكم بالوحي من السماء؟! بل قومٌ بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به، ويعملون بما فيه، أولئك أعظم أجراً، أولئك أعظم أجراً)) قالها مرتين [1]، وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جلوساً فذكرنا أصحاب رسول الله وما سبقوا به، قال: فقال عبد الله: إن أمر محمد كان بيِّناً لمن رآه، والذي لا إله غيره، ما آمن أحدٌ قط إيماناً أفضل من إيمانٍ بغيب، ثم قرأ: الم ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ [البقرة:1-3] [2]. أمةَ الإسلام، ويراد بالغيب كل ما غاب عنا علمُه في الماضي والحاضر والمستقبل، في الزمان والمكان، والذات والصفات، والمُحسَّات وغير المحسات، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره وأشراط الساعة، وما صحت به الأخبار من الحوادث الماضية والمستقبلة وأخبار الرسل وأممها، وما يحصل في آخر الزمان من علامات الساعة وأشراطها، من ظهور الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام، وخروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، وما يكون في البرزخ من عذاب القبر ونعيمه، مما دلت عليه الآيات وصحت به الأحاديث. وبعدُ عبادَ الله، فإن الإيمان بالغيب يُنشئ بإذن الله القوة الدافعة، ويربي الإرادة العازمة، ويحمي من السقوط، ويقوِّي جانب الاحتساب، ويشعر بالمسؤولية، ويقرِّر العدل المطلق، ويؤكّد قطعية النتائج والثواب والعقاب، ويربّي الرقيب الوازع في داخل الإنسان وضميره، ويحمي بإذن الله من الآفات النفسية واليأس، ويوقظ القلوب، ويهوِّن المصائب، ويغري بالتضحية في سبيل الحق. إن الذي يؤمن بالله ويؤمن بالغيب والدار الآخرة لا يخاطر بدنياه الفانية ليربح آخرته الباقية، كلا، إنه بإيمانه يربح الحياتين، ويفوز بسعادة الدارين، ويكسب الحسنيين، مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ [النساء:134]، لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ [النحل:30]، وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105]. نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (4/106)، والبخاري في خلق أفعال العباد (ص88)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2136)، والروياني في مسنده (1545)، والطبراني في الكبير (4/23) من طرق عن أبي جمعة الأنصاري رضي الله عنه، وصححه الحاكم (4/95)، وقال ابن القيسراني في تذكرة الحفاظ (1/390): "هذا حديث صالح الإسناد غريب"، وحسن الحافظ أحد أسانيده في الفتح (7/6). [2] أخرجه سعيد بن منصور في السنن (180)، وابن أبي حاتم وابن مردويه كما في تفسير ابن كثير (1/42)، وابن منده في الإيمان (209)، وصححه الحاكم (2/286).
|