أما بعد: أيها المسلمون، قال صلى الله عليه وسلم: ((القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه)). أيها الأحبة في الله، في بعض الكلام تكرار، وغالبه معروف وليس بجديد، لكن نحن بحاجة إليه، بحاجة أن يذكر بعضنا بعضاً بين فترة وأخرى بمثل هذا الكلام. وهذا من أجل أن يتنبه الإنسان ويحاسب نفسه، نحاسب غيرنا وننسى محاسبة أنفسنا. فقفوا الوقفة الصادقة مع النفس محاسبةً ومساءلة. فوالله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتجزون بما كنتم تعملون.فجنة للمطيعين، ونار جهنم للعاصين أَفَمَن يُلْقَىٰ فِى ٱلنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءامِناً يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40]. إخوتي في الله، من غفل عن نفسه تصرمت أوقاته ثم اشتدت عليه حسراته. وأي حسرة على العبد أعظم من أن يكون عمره عليه حجة.وتقوده أيامه إلى المزيد في الردى والشقوة. إن الزمان وتقلباته أنصح المؤدبين، وإن الدهر بقوارعه أفصح المتكلمين.. فانتبهوا بإيقاظه، واعتبروا بألفاظه. ورد في الأثر: "أربعة من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص عن الدنيا". معاشر الإخوة، من حاسب نفسه في الدنيا خف في القيامة حسابه، وحسن في الآخرة منقلبه، ومن أهمل المحاسبة دامت حسرته وساء مصيره. وما كان شقاء الأشقياء إلا لأنهم كانوا لا يرجون حساباً. وقعوا ضحايا خداع أنفسهم، وأحابيل شياطينهم، وافتهم المنايا وهم في غمرة ساهون. في الشباب من غره شبابه فنسى فقدان الأقران، وغفل عن سرعة المفاجآت، وتعلق بالآمال والأماني، وما هي والله إلا أوهام الكسالى، وأفكار اللاهين، وما الاعتماد عليها إلا بضائع الحمقى، ورؤوس أموال المفاليس، والتمني والتسويف إضاعة للحاضر والمستقبل. وفي أهل العلم من جدّ في التحصيل وغفل عن العمل، أعطوا علوماً فصرفوها في الرياء والمجادلات، والعلو على الأقران، يمزق دينه من أجل ترقيع دنياه، لا يتحاشى غيبة ولا يسلم من حسد. وفي أهل الدنيا من صرف أمواله في الشهوات والمحرمات. وأشد هؤلاء من كسب مالاً، فأدخله النار وورثه من بعده قوم صالحون عملوا فيه بطاعة الله، فأدخلهم الجنة. ليس أعظم حمقاً ممن ضيع ماله وأصلح ماله غيره، وقد علم أن ماله ما قدم، ومال غيره ما خلّف. ألا ينظر هؤلاء وهؤلاء: لقد وهن العظم، وابيض الشعر، ورحل الأقران، ولم يبق إلا الرحيل. عجيب حال هذا الغافل: يوقن بالموت ثم ينساه ويتحقق من الضرر ثم يغشاه، يخشى الناس، والله أحق أن يخشاه، يغتر بالصحة وينسى السقم، ويفرح بالعافية ولا يتذكر الألم، يزهو بالشباب ويغفل عن الهرم، يهتم بالعلم ولا يكترث بالعمل، يحرص على العاجل ولا يفكر في خسران الآجل، يطول عمره ويزداد ذنبه، يبيض شعره ويسود قلبه، قلوب مريضة عز شفاؤها، وعيون تكحلت بالحرام فقل بكاؤها. وجوارح غرقت في الشهوات فحق عزاؤها. سبحان الله ـ عباد الله ـ ألم يأنِ لأهل الغفلة أن يدركوا حقيقة هذه الدار. أما علموا أن حياتها عناء، ونعيمها ابتلاء، جديدها يبلى، وملكها يفنى، وُدّها ينقطع، وخيرها ينتزع، المتعلقون بها على وجل، إما في نعم زائلة، أو بلايا نازلة، أو منايا قاضية. يٰقَوْمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا مَتَـٰعٌ وَإِنَّ ٱلاْخِرَةَ هِىَ دَارُ ٱلْقَـرَارِ [غافر:39]، العمر قصير، والخطر المحدق كبير. والمرء بين حالين: حال قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه. إذا كان الأمر كذلك أيها الأحبة، فعلى صاحب البصر النافذ أن يتزود من نفسه لنفسه، ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه، ومن صحته لمرضه، فما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا سوى الجنة أو النار. ومن أصلح ما بينه وبين ربه كفاه ما بينه وبين الناس، من صدق في سريرته حسنت علانيته، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه. والمحاسبة الصادقة ما أورثت عملاً، فعليك ـ يا عبد الله ـ أن تستدرك ما فات بما بقي فتعيش ساعتك ويومك، ولا تشتغل بالندم والتحسر من غير عمل. واعلم أن من أصلح ما بقي غُفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أُخذ بما مضى وبما بقي. والموت يأتيك بغتة، فأعط كل لحظة حقها، وكل نَفَس قيمته، فالأيام مطايا، والأنفاس خطوات والصالحات هي رؤوس الأموال، والربح جنات عدن، الخسارة نار تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى. وأنت حسيب نفسك. روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح، حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلاً القبلة، وجلسنا حوله، وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض، فجعل ينظر إلى السماء، وينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثاً، فقال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر ـ مرتين أو ثلاثاً ـ))، ثم قال: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ثلاثاً، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة. نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، فذلك قوله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ [الأنعام:61]، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها، فلا يمرون، يعني بها، على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب، فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وما أدراك ما عليون، كتاب مرقوم، يشهده المقربون، فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فيرد إلى الأرض وتعاد روحه في جسده، قال: فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه مدبرين، فيأتيه ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان له: من ربك ؟فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك ؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له، ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟، فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولان له: وما يحملك، فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت، فينتهره فيقول: من ربك، ما دينك، من نبيك، وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله عز وجل: يُثَبّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم فينادى مناد في السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً من الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت، فوجهك الوجه يجيء بالخير فيقول: أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في إطاعة الله بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً، ثم يفتح له باب من الجنة، وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة قال: رب عجل قيام الساعة كيما أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال له: اسكن)). قال: ((وإن العبد الكافر وفي روايةٍ الفاجر، إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد، سود الوجوه، معهم المسوح من النار، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده فينزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فتقطع معها العروق والعصب، فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وتغلق أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم، فيأخذها، فإذا أخذها، لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك السموح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأٍ من الملائكة، إلا قالوا:ما هذا الروح الخبيث فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له))، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوٰبُ ٱلسَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِى سَمّ ٱلْخِيَاطِ [الأعراف:40]، ((فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، ثم يقال، أعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فيطرح روحه من السماء طرحاً، حتى تقع في جسده))، ثم قرأ: وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ٱلرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]. ((فتعاد روحه في جسده، قال: فإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه، ويأتيه ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه، ويجلسانه، فيقولان له، من ربك، فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟فيقول: ها هاه لا أدري، فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟فلا يهتدي لاسمه، فيقال محمد، فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون ذاك، قال: فيقال: لا دريت ولا تلوت، فينادى مناد من السماء، أن كذب، فأفرشوا له من النار وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف منه أضلاعه. ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فو الله ما علمتك إلا كنت بطيئاً عن طاعة الله، سريعاً إلى معصية الله، فجزاك الله شراً، ثم يقيض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة، لو ضرب بها جبل كان تراباً، فيضربه ضربة حتى يصير بها تراباً، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه به ضربة أخرى، فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يفتح له باب من النار، ويمهد من فرش النار، فيقول: رب لا تقم الساعة)). فاتقوا الله عباد الله، كفى بالموت واعظاً، فإنه لا يقرع باباً، ولا يهاب حجاباً لا يقبل بديلاً، لا يأخذ كفيلاً، ولا يرحم صغيراً، ولا يوقر كبيراً. أكثروا من ذكر هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ولا تغتروا يا عباد الله، بهذه الأعمال البسيطة التي تقدمونها. يروى أنه لما احتضر أبو بكر الصديق رضي الله عنه، قالت عائشة: لعمـرك ما يغني الثـراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فقال: ليس كذلك، ولكن قولي: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند موته، ويلي وويل أمي، إن لم يرحمني ربي. ولما احتضر أبو هريرة رضي الله عنه بكى، فقيل له: وما يبكيك؟فقال: بُعد المفازة وقلة الزاد، وعقبةٌ كئود، المهبط منها إلى الجنة أو إلى النار. ولما احتضر عمر بن عبد العزيز، قال: إلهي أمرتني فلم ائتمر، وزجرتني فلم أنزجر، غير أني أقول: لا إله إلا الله. وقال المزني، دخلت على الشافعي في علته التي مات فيها، فقلت له: أبا عبد الله، كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، وبكأس المنية شارباً، وعلى الله واراداً، ولا أدري نفسي تصير إلى الجنة فأهنئها أم إلى النار فأعزيها. ثم بكى وقال: ولما قسـا قلبي وضـاقت مذاهبـي جعلت رجائي نحو عفوك سلما تعاظمنـي ذنبـي فلمـا قرنتــه بعفوك ربي كان عفوك أعظما وما زلت ذا عفو عـن الذنب سيدي تجود وتعفـو منّـة وتكرمـا ولـولاك لم يغـوِ بإبليـس عابـد فكيف وقد أغوى صفيك آدما وصلوا وسلموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله كما أمركم. اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال. اللهم اجعل قبورنا روضة... |