الحمد للّه وحده وصلى اللّه وسلم على محمد وآله وصحبه، وبعد:
ففي هذه الأزمنة اعتاد أغلب المصلين التأخر عن المساجد فلا يحضرون غالباً إلا عند الإقامة أو بعدها و كثيراً ما تفوتهم الصلاة أو جزء منها و قد تقام الصلاة و ليس في بعض المساجد سوى عدد قليل كأربعة أو خمسة ثم يتوافدون بعد الإقامة فتراهم عدة صفوف رغم انتظارهم بعد الأذان بربع ساعة أو أكثر وهذا التأخر يفوت عليهم خيراً كثيراً وإليك بعض الأدلة على ما يفوت هؤلاء:
أولاً: ترك السكينة و الوقار فقد روى أبو هريرة أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال:
{ إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا } [متفق عليه]. فالسعي الذي يفعله الكثيرون يفوتهم السكينة و الوقار.
ثانياً: كثيراً ما تفوتهم بهذا التأخر فضيلة الرواح والغدو إلى المساجد، فقد روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال:
{ من غدا إلى المسجد أو راح أعد اللّه له في الجنة نُزلاً كلما غدا أو راح } [متفق عليه].
ثالثاً: فوات كثرة الخُطا حيث يجيئ أحدهم مسرعاً وقد قال تعالى:
وَنَكتُبُ مَا قَدَّمُواْ وآثَاَرهُم [يس:12]. وقال صلى اللّه عليه وسلم:
{ بَني سلمة دياركم تكتب آثاركم }، وقال:
{ وبكل خطوة إلى الصلاة صدقة }، وقال صلى اللّه عليه وسلم:
{ ألا أدلكم على ما يمحو اللّه به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ } قالوا: بلى. قال:
{ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذالكم الرباط فذالكم الرباط } [رواه مسلم].
رابعاً: فوات استغفار الملائكة لمن ينتظر الصلاة في المسجد قبل الإقامة، وكونه في حكم المصلي، فعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم:
{ فإن أحدكم إذا تؤصأ فأحسن وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعه اللَّه درجة وحط عنه خطيئة، وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت تحبسه، وتصلي عليه الملائكة ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يؤذ أو يحدث فيه، تقول اللهم اغفر له، اللهم ارحمه } [رواه البخاري]، وفي رواية:
{ لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا في الصلاة }.
خامساً: في التأخر فوات الصف الأول غالباً مع مافيه من الفضل فقد قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم:
{ لو يعلم الناس ما في النداء و الصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير - أي التبكير - لاستبقوا إليه } [متفق عليه].
و قال صلى اللَّه عليه وسلم:
{ خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها } [رواه مسلم].
سادساً: في التأخر غالباً فوات تكبيرة الإحرام وهي أفضل التكبيرات، فقد روى البزار كما في الكشف برقم (521) عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:
{ إن لكل شيء أنفة وإن أنفة الصلاة التكبيرة الأولى فحافظوا عليها }، ثم روى عن أبي هريرة رضي اللّه عنه مرفوعاً:
{ لكل شيء صفوة وصفوة الصلاة التكبيرة الأولى }.
سابعاً: هذا التأخر يفوت السنن الراتبة القبلية كسنة الفجر، وقد روى مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:
{ ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها }، وروى أبو داود مرفوعاً:
{ لا تدعوهما ولو طردتكم الخيل }، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يصلي قبل الظهر ركعتين، وأحياناً أربع ركعات، كما رواه الترمذي عن علي وعائشة، وروى أهل السنن عن أم حبيبة مرفوعاً:
{ من صلى قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً حرمه الّله على النار }، وعن ابن عمر مرفوعاً:
{ رحم اللّه امرءاً صلى قبل العصر أربعاً } [رواه أبو داود والترمذي بإسناد حسن].
ثامناً: هذا التأخر يفوت وقت إجابة الدعاء، وهو ما بين الأذان والإقامة، فقد روى أبو داود والترمذي وحسنه، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:
{ الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة }.
تاسعاً: كثيراً ما يفوت المتأخر متابعة المؤذن والمقيم، والدعاء بعد الأذان، فإن متابعة المؤذن بالذكر مع الإخلاص سبب لدخول الجنة، كما رواه مسلم عن عمر رضي اللّه عنه، وروى البخاري عن جابر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال حين يسمع النداء:
{ اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة }.
عاشراً: هذا التأخر قد يفوت إدراك صلاة الجماعة، وصلاة الجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة. فقد روى الشيخان عن ابن عمر رضي اللّه عنهما، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
{ صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة } [وهذا لفظ مسلم].
حادي عشر: هذا التأخر قد يفوت إدراك ميمنة الصف، لما ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، فضل الصلاة على يمين الصف. فعن عائشة رضي اللّه عنها قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
{ إن اللّه و ملائكته يصلون على ميامن الصفوف } [رواه أبو داود وابن ماجه].
ثاني عشر: و مما يفوت المتأخر عن الصلاة التأمين وراء الإمام في الصلاة الجهرية، فقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:
{ إذا قال أحدكم آمين، وقالت الملائكة في السماء آمين، فوافقت إحداها الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه }، وهذا لا شك فضل عظيم وخير كثير، يدفع العبد إلى التبكير إلى الصلوات حتى لا يفوته هذا التأمين.
ثالث عشر: إن التبكير إلى الصلاة والاهتمام بها دليل على أن صاحبها ممن تعلق قلبه بالمساجد وحينئذ يكون ممن يظلهم اللّه يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله كما في الحديث المتفق عليه.
رابع عشر: هذا التأخر يفوت الاشتغال بالذكر والدعاء وقراءة ما تيسر من القرآن، فإن المتقدم إلى المسجد وقت الأذان أو بعده بقليل يبقى في المسجد نحو ساعة، وقت الصلاة وقبلها وبعدها، يتقرب إلى اللّه تعالى بأنواع العبادات، من ذكر ودعاء وقراءة للقرآن، وإنصات له، وتفكير في آلاء اللّه تعالى، وخلوه بذكره ومناجاته، وانقطاع عن الدنيا وهمومها، ليكون ذلك أدعى إلى الإقبال على الصلاة والخشوع فيها، بخلاف المتأخر فإنه يصلي وقلبه منشغل بهمومه وأحزانه، فلا يقبل على صلاته ولا يحضر فيها قلبه.
ولا شك أن الذين يتأخرون حتى يسمعوا الإقامة أغلبهم ليس لهم شغل شاغل سوى القيل والقال، واللهو واللعب، ومشاهدة الأفلام، أو جلوس بدون عمل، ونحو ذلك مما هو إضاعة للوقت أو اكتساب لمعصية، ولو أن الإنسان عود نفسه على التقدم مرة بعد مرة لسهل عليه الأمر وأصبح محبوباً عند نفسه، يلتذ بجلوسه في المسجد أتم من لذته مع أهله وولده، فلنحرص على التقدم حتى لا نكون ممن قال فيهم النبي صلى اللّه عليه و سلم:
{ لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم اللّه } [رواه مسلم].
واللّه أعلم و صلى اللّه على محمد وآله وصحبه وسلم.