أما بعد: عباد الله يقول تعالى: وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة:23]. ويقول جل وعلا: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]. وقال عن أوليائه رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ [الممتحنة:4]. وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّكَ عَلَى ٱلْحَقّ ٱلْمُبِينِ [النمل:79]. وقال: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكّلِينَ [آل عمران:159]. قال جل في علاه: وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً [النساء:81]. وقال عن أصحاب نبيه رضوان الله عليهم ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـٰناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ [آل عمران:173]. وفي الصحيحين في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ((هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)). وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((حسبنا الله ونعم الوكيل. قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار. وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)). وعند الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعاً: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لزرقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً)) وفي السنن من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال حين يخرج من بيته: ((بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.يقال له: هديت ووقيت وكفيت فيقول الشيطان لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي ووقي وكفي؟)). أيها الموحدون، هذا كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في التوكل. وما ذكرناه قليل من كثير من الآيات والأحاديث في فضل التوكل وأهميته. التوكل عباد الله عبادة عظيمة القدر قد ضل عنه كثير من المسلمين ما بين جهل بماهية التوكل أو عجز وتفريط في هذه العبادة، قال أهل العلم: التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة. فإن الدين استعانة وعبادة فالتوكل هو الاستعانة ـ أي بالله ـ والإنابة هي العبادة. ومصداق ذلك في قوله تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين ومعناها: نحن لا نعبد إلا أنت يا الله، وبك نستعين على عبادتك، فإنه لا معين لنا إلا أنت. ويقول سهل بن عبد الله التستري: العلم كله باب من التعبد، والتعبد كله باب من الورع، والورع كله باب من الزهد، والزهد كله باب من التوكل. والمتوكلون على الله أنواع وأقسام، فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان ونصرة دينه وإعلاء كلمته وجهاد أعدائه، وأقل من هؤلاء مرتبة من يتوكل عليه في استقامته في نفسه وإصلاحها، وأقل من هؤلاء مرتبة من يتوكل على الله في أمر يناله منه، من رزق أو عافية أو نصر على عدو أو زوجة أو ولد، وأفضل التوكل التوكل في الواجب، وهو واجب الخلق وواجب النفس، وأوسع التوكل وأنفعه التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية أو رفع مفسدة دينية، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله ودفع فساد المفسدين في الأرض. ثم الناس بعد ذلك في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم، فمن متوكل على الله في حصول الملك، ومن متوكل على الله في الحصول على رغيف خبز. ومن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله. فإن كان محبوباً لله مرضياً كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطاً مبغوضاً كان ما حصل له بتوكله مضرة عليه. واعلم هداني الله وإياك للصواب أن التوكل من أعمال القلوب لا من أعمال الجوارح، قال الإمام أحمد رحمه الله: التوكل:عمل القلب. معنى ذلك أنه عمل قلبي، ليس بقول اللسان ولا عمل الجوارح. وأما تعريف التوكل فقد قال بعض أهل العلم التوكل: هو علم القلب بكفاية الرب للعبد. وقال غيره: هو انطراح القلب بين يدي الرب، وهو ترك الاختيار والاسترسال مع مجاري القدر. وقال غيره: هو الرضا بالمقدور. والتوكل عباد الله درجات منها الدرجة الأولى معرفة بالرب وصفاته من قدرة الله وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته، وهذه المعرفة هي أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل. فكل من كان بالله أعلم وأعرف كان توكله أصح وأقوى. الدرجة الثانية من درجات التوكل: إثبات الأسباب والمسببات. وإن من جهل بعض الناس أنهم تركوا الأخذ بالأسباب وظنوا أن هذا هو التوكل وأنهم ينتظرون من الله أن يرزقهم ويطعمهم ويسقيهم وهم نائمون على فرشهم دون عمل ولا ضرب في الأرض للحصول على ذلك. وهذا عباد الله هو العجز الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) ولكن ليعلم المتوكل أنه يأخذ بالأسباب ولا يتعلق قلبه بها إنما القلب متعلق بالله. فأنت تطلب الوظيفة ولكن لا يتعلق قلبك بها، وتجمع مالا تغني به ورثتك من أهل وأبناء ولكن يبقى تعلقك بالله لا بهذا المال. والأخذ بالأسباب من سنة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام فقد لبس درعين يوم أحد ولم يترك لبس الدروع محتجاً بأنه متوكل على الله. وقد كان يدخر لأهله قوت سنة -كما في صحيح البخاري- وهو سيد المتوكلين. |