أما بعد: عباد الله، سؤال قد يتعجب الكثير من طرحه، والسؤال هو: ما هويتك؟ بمعنى: من أنت؟ ولعل مجيباً يقول: أنا فلان بن فلان، وآخر يقول: أنا المهندس أو الطبيب أو المعلم أو الشيخ أو التاجر. ولعل متعمقاً يقول: أنا عربي من بلاد العرب. ولكن…. ما هذا الذي أردت. وإنما أردت إجابة واحدة مكونة من كلمة واحدة هي: أنا مسلم. ذلك هو الجواب لمن وفق للصواب. ومع ذلك نقول: إنه لا يكفي أن تقول: أنا مسلم، وإنما المهم بعد ذلك أن تعرف ماذا تعني هذه الكلمة؟ أخي الحبيب: أنا مسلم تعني انتماء لدين الله الذي أنزله من فوق سبع سماوات على أفضل أنبيائه وخاتم رسله. أنا مسلم تعني موافقة الفطرة التي فطر الله الناس عليها فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذَلِكَ ٱلدّينُ ٱلْقَيّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الروم:30]. أنا مسلم تعني طريقة تفكير وأسلوب عمل ونمط تصرفات ومنهج حياة. أنا مسلم تعني اصطفاء واجتباء، طهارة ونقاء، سمو وارتقاء. أنا مسلم ممن قال الله فيهم كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]. أنا مسلم ممن قال الله فيهم: وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]. أنا مسلم ممن قال الله فيهم: ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]. أنا صاحب الدين الذي قال الله فيه: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإسْلَـٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ [آل عمران:85]. أنت مسلم … نعم …. تلك هي هويتك يا من شهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. هويتك الإسلام ودينك الإسلام، به تحيا، وفي سبيله تجاهد، وعليه تموت إن شاء الله. ولكن … ترى هل هذه هي هوية ألف مليون أو يزيدون ممن ينتسبون لهذا الدين؟ هل استشعر هذا العدد الضخم كل تلك المعاني في انتمائهم لهذا الدين؟ هل لا زالت هذه الهوية منظورة مشهودة على أرض الواقع للمنتسبين لهذا الدين؟ إنها المأساة - عباد الله - حين تبحث عن جواب لهذه التساؤلات. إنها مأساة حينما تنظر إلى كثير من المسلمين اليوم، فتجد أن هويتهم قد انمحت أو طمست. تنظر وتتأمل فترى، هذا مشرق وذاك مغرب، ولا تكاد ترى من أفراد الأمة الوسط إلا القليل. أيها المسلمون يعرف المسلم بمنظره ومخبره، بهيئته وسلوكه، بتعامله مع الناس. فهل إذا تفحصنا أحوال الأمة وجدنا المسلم الحق؟!! إنني أتساءل… أين هي الأخلاق الإسلامية، أين الصدق، الأمانة، الإخلاص، الوفاء بالوعد، حب الخير للناس، الإيثار، الكرم، الشجاعة.. وغيرها من الأخلاق. هل لا زالت حية على أرض الواقع أم أنها بليت واندثرت؟!! أما أصبح الكثير منا اليوم إذا أراد أن يؤكد وعده يقول: (وعد انجليزي)، ألم تسمع كثيراً من أصحاب المؤسسات والأعمال يقول بأن العامل الكافر يعمل بإخلاص أكثر من العامل المسلم. أليس الكثير منا إذا أراد ألا يفي بوعده يقول لك: أفعل إن شاء الله، حتى أصبح بعض الناس يقول لك: لا تقل: إن شاء الله، أكد كلامك. لماذا هذا؟ لأن التعليق بمشيئة الله أصبح سمة للتهرب من الوفاء بالوعد. ترى علام يدل هذا؟ أذلك هو المسلم؟!! أخي المسلم، تلك هي الأخلاق الإسلامية السائدة اليوم عند الكثير إلا من رحم الله. وأما إذا تحدثنا عن الهيئة والمظهر فحدث ولا حرج عن رجال المسلمين ونسائهم في لباسهم وأثاث بيوتهم وطريقة أكلهم وشربهم.. وما إلى ذلك. ملابس غربية وبيوت غربية وطريقة أكل غربية إلا من رحم الله. بل وبلغ الحد ببعض شبابنا ورجالنا أن قلدوهم في قصات شعورهم ومشيتهم وجلستهم. حتى ظهر عندنا شباب أطالوا شعورهم وربطوها كما تفعل النساء، يفعلها بعض الشباب تقليداً لكافر رآه. ورأينا رجلاً قد ابيض بعض شعر رأسه يمشي بسروال قصير قد كشف عن بعض فخذيه، يفعل ذلك هو الآخر تقليداً لكافر رآه. وأعجب من ذلك أن ظهرت في الآونة الأخيرة محلات لقص الشعر وصبغه وعمل ما يسمى بالاستشوار. تظنون ذلك لمن؟ للنساء … كلا إنها للرجال، ويالها من مصيبة أن يفعل ذلك شباب أمة يفترض فيها أن تقود العالم إلى الله بدعوتها وجهادها. إنه عباد الله فقد الهوية وضياع الهوية حتى أصبح المسلم يبحث عن هوية بدلاً عن تلك التي أضاعها وأضاع معها تميزه الذي حباه الله إياه. وهكذا تفقد الهوية شكلاً ومضموناً. إخوة الإيمان، إن قضية التغريب والحرب على الهوية الإسلامية قد صاحبتها دعوة إلى تقسيم الدين إلى مظهر وجوهر، بحيث يتخلى المسلمون عن المظهر بحجة أن الجوهر كاف. وهذه دعوة ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب، وقد انطلت على كثير من المسلمين حتى قبلوها دون إدراك لمخاطرها. لقد جعلت الشريعة الحنيفية تميز الأمة المسلمة في مظهرها عمن عداها من الأمم مقصداً أساسياً لها، بل إن أهل كل ملة ودين يحرصون على مظهرهم باعتباره معبراً عن هويتهم، وآية ذلك أنك ترى أتباع العقائد والديانات يجتهدون في التميز والاختصاص بهوية تميزهم عن غيرهم وترمز إلى عقيدتهم. وهذا أوضح ما يكون في عامة اليهود الذين يتميزون بصرامة، بطاقياتهم، ولحاهم، وأزيائهم التقليدية، وفي المتدينين من النصارى الذين يعلقون الصليب في أعناقهم، وفي السيخ والبوذيين وغيرهم. أليس هذا كله تميز صادر عن عقيدة ومعبر عن الاعتزاز بالهوية. وإذا كانت هذه المظاهر هي صبغة الشيطان، فكيف لا نتمسك نحن بصبغة الرحمن التي حبانا الله عز وجل: صِبْغَةَ ٱللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـٰبِدونَ [البقرة:138]. إخوة الإيمان، وننتقل إلى البحث عن الهوية عند المرأة المسلمة فتجد أنها هي الأخرى قد أضاعت هويتها ولنتأمل في ميزتين وسمتين من أبرز مميزات وسمات الهوية الإسلامية عند المرأة المسلمة. أولاهما: الحجاب، فهاهو الحجاب قد حورب من قبل أعداء الإسلام وسلطت عليه رماح الشبهات وسهام الشهوات حتى تردى قتيلاً أو كاد. نعم إخوة العقيدة لقد ذبح الحجاب بغير سكين حتى تلاشى في كثير من بلاد المسلمين، وما عاد يرى إلا عند قليل من المتمسكين بشريعة الله. وعند بعض من تمسكوا به بدأ بعض النساء بالتساهل في الحجاب وإظهار بعض المفاتن كاليدين والوجه والساعدين والقدمين والساقين. بل ولقد تعدى الأمر إلى أن بعض اللواتي يكشفن وجوههن يزدن فوق كشفه وضع المساحيق التي تسمى بالماكياج. وثاني سمات الهوية التي فقدت: الحياء، وسل كذلك عن هذه السمة الرئيسة للهوية الإسلامية للمرأة ليأتيك الجواب: رحم الله الحياء، فقد كان خير خصال المرأة المسلمة بعد الإيمان. إي والله، لقد مات الحياء عند كثير من النساء اليوم. وإن أردت البينة فقل لي بربك: أي حياء عند امرأة تخرج للأسواق تزاحم الرجال في مجامعهم، تتكلم مع هذا وتضحك مع ذاك. تصافح هذا وتخلو بذاك. ويقال لك بعد هذا كله: إن الحياء ليس في حجاب أو غيره فقط، إنما الحياء في القلب، والقلوب نظيفة فلا تظنن أن الشيطان يوسوس لهذا أو تلك بأي خاطر سوء، كلا فالقلوب نقية طاهرة خاصة في عصرنا هذا!!! عباد الله يقول تعالى: يٰنِسَاء ٱلنَّبِىّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ ٱلنّسَاء إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلاْولَىٰ [الأحزاب:32-33]. هذا عباد الله يقال لنساء النبي ، لأمهات المؤمنين!! يقال أيها المسلم لعائشة الصديقة بنت الصديق ولحفصة بنت عمر بن الخطاب ولأم سلمة ولميمونة ولزينب بنت جحش وبقية أمهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعاً وأرضاهن. تنهى أمهات المؤمنين عن الخضوع في القول بأمر من الله ثم يرى بعض الناس في هذا العصر أن هذا لا بأس به ما دام القلب نظيفاً والنفس طاهرة - زعموا -. أيها المغرور أطهر القلوب إطلاقاً هي قلوب أصحاب محمد ورضي الله عنهم بشهادة الله لهم وبشهادة النبي . يا من يدعي جواز ذلك إذا كانت القلوب طاهرة كما يزعم يقول : ((لا يخلون رجل بامرأة ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وخرجت امرأتي حاجة قال: اذهب فحج مع امرأتك)) [رواه البخاري]. ويقول فيما رواه الترمذي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان)) ويقول كما عند البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) فياليت شعري أي عصر يراد بهذا. ولو قلت أن ما يحدث من هذه الأمور هو أمر منكر، ولا يجوز فأنت متهم بأنك سيء الظن أسود القلب مدخول النية والطوية. أيها المؤمنون، كلامنا عن الحياء كسمة من سمات الهوية الإسلامية للمرأة المسلمة. أيها العقلاء إنها عملية اغتيال لشخصية المرأة المسلمة وهوية المرأة المسلمة عن طريق قتل الحياء عندها. واعلموا رحمكم الله أن المرأة إذا فقدت حياءها فقدت الكثير بعد ذلك. وصدق رسول الله في قوله: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) [رواه البخاري]. إخوة العقيدة، هذه بعض جوانب الهوية الإسلامية التي فقدت من حيث المظهر والمخبر، فتعالوا بنا إخوتي لننظر في مجال آخر من مجالات هويتنا التي فقدت ألا وهو مجال الفكر أو المجال الفكري. لقد حوربت الهوية أيضاً وغُرّبت من قبل أعداء الإسلام وظهرت آثار فقد الهوية في أفكار ومناهج تنادي بالتقريب بين الأديان وحوار الأديان وخصوصاً الأديان الثلاثة: الإسلام والنصرانية واليهودية. أقيمت مؤتمرات للتقريب بين التوحيد والشرك، للتقريب بين من يقول: لا إله إلا الله، ومن يقول: إن الله ثالث ثلاثة، للتقريب بين من يقول: قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:1-3]. ومن يقول: المسيح ابن الله، وعزير ابن الله. تلك هي أفكار قوم فقدوا هويتهم وباعوا دينهم. ومن هذا الباب أيضا ظهرت أفكار تنادي بتبني الحضارة الغربية والآراء الغربية والنظريات الغربية وأخذها كاملة كما هي بعجرها وبجرها، وحلوها ومرها، حتى نصل -كما يزعمون- إلى ما وصل إليه القوم من التقدم والرقي، نادى بذلك -إخوة الإيمان- أقوام ينتسبون إلى هذا الدين، يطالبون الأمة أن تنصهر في بوتقة غربية لتخرج بعد ذلك وقد فقدت دينها وهويتها وأخلاقها وكل ما تتميز به. هكذا يريدون لهذه الأمة أن تكون أمة بلا هوية وتلبس ثوباً غير ثوبها وتتزيى بغير زيها. وما الذي حدث؟ حاول بعضهم فعل ذلك ولم يحصلوا على التقدم ولا النهضة المزعومة وفقدوا هويتهم فلم يبقوا على هويتهم ولا حصلوا على مطلوبهم فكانوا كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وكان الضياع والتيه. يقول أحد رجالات هذه الدعوة وتلك الأفكار مسجلاً تراجعه واعترافه بفساد هذه الدعوة وتلك الأفكار، وهو محمد حسين هيكل : ولقد خيل إلي زمناً -كما لا يزال يخيل إلى أصحابي- أن نقل حياة الغرب العقلية والروحية، سبيلنا إلى هذا النهوض… ولكنني أدركت بعد لأي أنني أضع البذر في غير منبته، فإذا الأرض تهضمه ثم لا تتمخض عنه، ولا تبعث الحياة فيه… وروّأت، فرأيت أن تاريخنا الإسلامي وحده، هو البذر الذي ينبت ويثمر. وحوربت الهوية كذلك بحرب اللغة العربية، ونادى أقوام باستخدام اللهجات العامية في كل مجال، وهجر اللغة العربية لتفقد الأمة صلتها بالقرآن ويزداد تمزقها. |