أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، قال الله عزَّ وجلَّ: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]. الإنسان بطبعه يحب التآلف مع غيره، والإسلام دين تجمع وأُلفة، والاختلاط بالناس والتعارف بينهم من تعاليمه الأساسية، وقد فضّل الرسول الذي يخالط الناس على من هجرهم، ونأى عنهم فقال: ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)) [1]. والزيارة وسيلة من وسائل المخالطة، وهي تفضي إلى التواصل، وبها تشيع المودة، وتتآلف القلوب، وتقوى الروابط، ويتذكر الناس، وينبّه الغافل، ويّعلم الجاهل، ويروح بها عن النفوس، وتخفف المصائب والأحزان، ومصالح أخرى لا تخفى. ثبت أن النبي زار عدداً من أصحابه، وكان يزور أبا بكر رضي الله عنه باستمرار، فعن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي قالت: (لم أعقل أبويَّ إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسول الله طرفي النهار بكرة وعشياً، فبينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل: هذا رسول الله في ساعة لم يكن يأتينا فيها) [2]. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله زار أهل بيت من الأنصار، فطعِم عندهم طعاماً، فلما أراد أن يخرج أمر بمكان من البيت فنضح له على بساطٍ فصلى عليه ودعا لهم [3]. الزيارات -عباد الله- أنواع، منها الواجب والمستحب، وهي حقوق يُجْمع الخلق على الإقرار بها، والإجازة فرصة سانحة لتؤدى فيها الحقوق، وتملؤ الأوقات بالمفيد، حديثنا عنها ذكرى و ٱلذّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]. ولئلا تطغى المغريات والملهيات فتنسى هذه الحقوق. ولا يخفى أن ضغط الواقع، والانفتاح اللامع، أصاب كثيراً منا بالذهول، فالتبست عليه الأوليات، وقدمت المباحات على الواجبات والمستحبات، كما أن الضخ الإعلامي الهادر ضخّم أموراً لا قيمة لها في الحياة، فأهملت على ذلك بعض الحقوق الواجبة والمستحبة، ولعل من نافلة القول، أن زيارة الوالدين من برهما، زيارة دائمة تشمل أداء حقوقهما، بتفقد أحوالهما ومساعدتهما والتلطف معهما، ومهما بلغت المشاغل فلا عذر للأبناء في تجاهل الوالدين، أو تحول برّهما إلى مجرد مغريات عابرة، وقد جعل الله حقهما عظيماً وتكليمهما واجباً، قال تعالى: وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً [الإسراء:23]. جاء رجل إلى النبي يستأذنه في الجهاد فقال: ((أحيٌ والداك))؟ قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد))[4]. والزيارة للأرحام بنية صلة الرحم، ودوام الترابط، وتفقد أحوالهم، ومساندتهم مادياً ومعنوياً، وقد جعل الله صلة الرحم من صلته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك، قالت: بلى، يا رب، قال: فهو لكِ، قال رسول الله فاقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ [محمد:22])) [5]. ومن أنواع الزيارات زيارة الجيران لتفقد أحوالهم ومساعدتهم ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم، ولعظم حق الجار ومكانته قال رسول الله : ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) [6]. وزيارة المرضى من حق المسلم على أخيه المسلم، ولها آثار طيبة على المريض، فهي تُطَمْئن قلبه، وتشرح صدره، وتنسيه مرضه، وتخفف آلامه، خاصة إذا قارنها ذكر ودعاء، إن التكاسل عن زيارة المريض تفريط في حق من حقوق الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو زرته لوجدتني عنده)) [7]. إذا دخلت على المريض هوّن عليه مرضه، فقد كان النبي إذا دخل على من يعوده قال: ((لا بأس طهورٌ إن شاء الله)) [8]. علِق رجاء المريض في الله وحده، ذكِره بأن الله هو الشافي، ذكِره بأنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ذكِره بفضائل الصبر والرضا بقضاء الله وقدره. والزيارة – عباد الله – تكون لتعزية أهل الميّت، لما روى ابن ماجه عن عمرو بن حرام مرفوعاً: ((ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة)) [9]. ومن الزيارة زيارة الأيتام، والعطف عليهم، تأمل قول النبي : ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا)) وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما شيئاً [10]، قال النووي – رحمه الله -: "كافل اليتيم القائم بأموره" [11]. ومن الزيارات المثمرة زيارة العلماء وأهل الصلاح والتقى، يقتبس فيها من عبادتهم وزهدهم ووقارهم وخشيتهم، قال ابن المبارك: "كنت إذا نظرت إلى الفضيل جدد لي الحزن، ومقت نفسي" ثم بكى. ومع زيارة العلماء المعاصرين لك أن تتجول مع العلماء المتقدمين – رحمهم الله – بزيارتهم في بطون الكتب التي حكت سيرتهم. والزيارة في الله بين المسلمين تدخل البهجة في القلوب، وهي سبب محبة الله للعبد، فقد ذكر رسول الله أن رجلاً زار أخاً له في قرية، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته [12]. قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ)) [13]. للزيارة – عباد الله – آداب، تجعل المخالطة تقوم على أساسٍ سليم، وتتحقق بها هدف الزيارة، من بث روح المودة والمحبة، وحسن الأجر والفائدة، أبرز آداب الزيارة اختيارُ الوقت المناسب واليوم المناسب، فإن الهجوم على البيوت دون استئذان يتنافى مع آداب الإسلام. وفي غير الزيارات الواجبة فإن الزيارة الطويلة المكررة تفضي إلى الملل، وتضيع الأوقات، وتجعل الزائر ثقيلاً، وقد تُذهب وده. خفيف الكلام وحسن الاستقبال ليس مسوغاً للاسترسال والإكثار من الكلام، يتأكد هذا مع أصحاب المسؤوليات من علماء ونحوهم، ممن تضيق بهم الأوقات لكثرة الأعباء، فأوقاتهم ثمينة، ودقائق حياتهم غالية، والخير كل الخير في التوسط والقصد. كثرة الزيارات غير الهادفة قد تتحول إلى ثرثرة وقيل وقال، وغيبة ونميمة، وممارسة ألعابٍ محرمة. من الآداب – عباد الله – تطهير الزيارة من دواعي الشر والفتنة، كالاختلاط مثلاً، فقد تفشت ظاهرة الاختلاط في بعض الزيارات العائلية، حتى أصبحت عُرفاً وعادة بين الأزواج وأقربائهم، وهذه لا شك تؤدي إلى الفتنة والفساد، وتفتح أبواباً واسعة للشيطان كما لا يخفى. من الآداب الشرعية – عباد الله – التي أدّب الله بها عباده المؤمنين، ذلك الأدب الرفيع أدب الاستئذان، حرمة للبيوت، وتهذيباً للنفوس، وكان الرسول يعلم أصحابه أدب الاستئذان، فعن رجل من بني عامر أنه استأذن على النبي وهو في بيت فقال: ألج، فقال النبي لخادمه: ((أخرج إلى هذا فعلّمه الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم، أأدخل؟))، فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له النبي فدخل [14]. بلغت حرمة البيوت أن مقتحمها متوعد إلى درجة إهدار عين المتطلع للبيت، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي يقول: ((لو أن رجلاً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك من جُناح)) [15]. الاستئذان – عباد الله – يحقق للبيوت حرمتها، ويوفر على أهل البيت الحرج من المفاجأة، من الأدب أن يقرع الزائر الباب برفقٍ ولين، لا يُدرج الاستئذان، ولا يؤذي [بالفضول]، ولا يقف أمام الباب، ولا يرمي ببصره قبل أن يفتح ويُسمح له بالدخول، كل ذلك صون للبيوت، وليأمن الناس على عوراتهم وحرماتهم. يستأذن الزائر ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا انصرف، ففي صحيح البخاري عن النبي أنه قال: ((إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع)) [16]. قال تعالى: وَإِن قِيلَ لَكُمْ ٱرْجِعُواْ فَٱرْجِعُواْ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ [النور:28]. إن لم يؤذن للزائر فعليه أن يرجع، فذلك خير وأزكى، وهذا يجعل الزائر يعود مغتبطاً، فالله يقول: هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ فلا داعي للغضب والألم والأسى أن الباب لم يفتح فللناس أسرارهم وأعذارهم. هذه – إخوة الإسلام – تربية إسلامية تصحح مسار الحياة الاجتماعية، وتغرس فيه أنبل المشاعر وأرق الأحاسيس، وأصدق المعاني الأخلاقية الفاضلة، فالله يريد أن يبني أمة سليمة الصدور والنفوس، مهذبة المشاعر، طاهرة القلوب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله ناداه منادٍ أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً)) [17]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن ماجه (4032) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. [2] أخرجه البخاري:6079. [3] أخرجه البخاري:6080. [4] أخرجه البخاري (5972) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. [5] أخرجه البخاري (5983) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [6] أخرجه البخاري (6014) ومسلم (2624). [7] أخرجه مسلم (2569). [8] أخرجه البخاري (5656)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. [9] أخرجه ابن ماجه (1601). [10] البخاري (5304). [11] شرح مسلم (18/113) بنحوه. [12] أخرجه مسلم (2567) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [13] أخرجه الإمام مالك (6711) والإمام أحمد (5/233). [14] أخرجه أبو داود (5177). [15] أخرجه البخاري (6888) ومسلم (2158). [16] أخرجه البخاري (6245) ومسلم (2153). [17] أخرجه الترمذي (2008) وابن ماجه (1443).
|