أرأيت لو كانت لديك آنية من زجاج نظيفة لامعة ثم تعرضت للأتربة حتى اغبرت وانطفأ بريقها فعاجلتها بالمسح والتنظيف فعاد إليها رواؤها ورونقها، ما كان أسهل ذلك عليك. ثم أرأيت لو أنك أهملتها حتى تراكمت الأتربة وتحجرت واستمسكت فصار من العسير عليك حينئذ تنظيفها إلا أن تقسو عليها في التنظيف قسوة قد تحدث فيها خدشاً لا تمحوه الأيام. كذلك هي القلوب … تحمل على من حولها الشيء بعد الشيء من الغضب أو الحقد أو الحسد فإذا بادر أصحابها بتنقيتها زال كل كدر وعم الصفاء وسلم الصدر، وإذا أهملوا ذلك تراكمت المواقف وتتابعت المآخذ حتى يصبح في كل قلب على أخيه بغضاء لا تزول إلا بمعالجة شديدة ربما تركت خدشاً لا يمحوه الزمان … إن القلوب إذا تنافر ودها مثل الزجاجة كسرها لا يشعبُ إن سلامة الصدر أيها المؤمنون سلامته من كل غل وحسد وحقد وبغضاء على المسلمين، وهي من أعظم الخصال وأشرف الخلال، ثم هي من بعد خلة لا يقوى عليها إلا الرجال. ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على سلامة قلبه فكان يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا وَلِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ)) [النسائي:1287 عن شداد بن أوس]. وكان يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ابن مسعود: ((لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ)) [أبو داود، الأدب: 4218]. إن سلامة الصدر ونقاءه مفتاح المجتمع المتماسك الذي لا تهزه العواصف ولا تؤثر فيه الفتن، وكيف يا ترى يكون مجتمع تسوده الدسائس والفتن، وتمتلئ قلوب أفراده غشاً وحسداً وأمراضاً؟ أفذاك مجتمع أم غابة وحوش وذئاب؟ لقد قرأت في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم موقفين يستحقان التأمل والتبصر … الأول منهما: في غزوة الأحزاب حين أحكم الأعداء قبضتهم وأحاطوا بالمدينة ونقضت قريظة عهدها ولم يكن يحول بينها وبين المسلمين شيء، وكان الأمر كما قال الله: إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلاْبْصَـٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ هُنَالِكَ ٱبْتُلِىَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:10-11]. في ذلك اليوم العصيب خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وبطنه معصوب وهو متطلق الوجه فأخذ المعول وقال: ((بسم الله)) وضرب صخرة في الخندق ضربة وقال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة))! ثم ضرب الثانية فقال: ((الله أكبر أعطيت فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الآن))، ثم ضرب الثالثة فقال: ((الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني))!!!! [الرحيق:342]. وأما الموقف الآخر فهو عندما مر شاس بن قيس وكان شيخاً قد عتا شديد الحسد للمسلمين على نفر من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم فغاظه ما رأى من ألفتهم فأمر فتى يهودياً أن يجلس معهم ثم يذكرهم يوم بعاث وما تقاولوا فيه من الأشعار ففعل فتفاخر القوم حتى تواثب رجلان فاختصما، وتعصب لكل قومه حتى توعدوا أن يقتتلوا عند الحرة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج مغضباً يعرف الغضب في وجهه حتى جاءهم فقال: ((الله الله يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض، فبكى القوم واصطلحوا)). [الحركي:2/225]. أليس عجيباً أن يخرج الرسول راضياً متبسماً يوم الخندق رغم شدة الموقف وصعوبته، ويغضب كل هذا الغضب لمجرد تواثب بين حيين من المسلمين بل يصف ذلك بأنه كفر؟ إنه الدرس النبوي البليغ: إذا كانت القلوب سليمة، والصف واحداً فليعصف الباطل وليجلب الكفر بخيله ورجله فإن البناء متين، أما إذا اختلفت القلوب وذهب صفاؤها، فهذا نذير الشر وأول البلاء ويجب حينئذ الوقوف بحزم أمام هذا الداء. سلامة الصدر .. نعمة ربانية، ومنحة إلهية . وسلامة الصدر .. من أسباب النصر على العدو، قال تعالى: هُوَ ٱلَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ " فائتلاف قلوب المؤمنين من أسباب النصر التي أيد الله بها رسوله" كما قال الإمام القرطبي. [فتح القدير:2/322]. وسلامة الصدر سبب في قبول الأعمال، ففي الحديث: ((تعرض الأعمال كل يوم اثنين وخميس، فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً إلا امرءاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: أنظِروا هذين حتى يصطلحا)) [الصحيحة:1144]. فانظر كم يضيع على نفسه من الخير من يحمل في قلبه الأحقاد والضغائن. وسلامة الصدر علامة فضل وتشريف روى ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَان))ِ قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْب؟ِ قَال:َ ((هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَد))َ [ابن ماجه:4206 الزهد]. وسلامة الصدر صفة من صفات أهل الجنة وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ٱلأنْهَـٰرُ [الأعراف:43]. وفي الحديث في وصف أول زمرة تلج الجنة ((لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد)). وسلامة الصدر طريق إلى الجنة أيضاً، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من الوضوء))، تكرر ذلك ثلاث مرات في ثلاثة أيام، فأحب عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يعرف خبيئة هذا الرجل، فبات عنده ثلاثاً فلم يره كثير صلاة ولا صيام، فسأله فَقَالَ: (مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ) فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيق.ُ [أحمد:12236]. أفرأيت كيف سمت به سلامة صدره حتى بشر بالجنة ثلاث مرات؟!! وانظر رعاك الله إلى عظم الأمر فإذا كان مثل ابن عمرو وهو من هو،وكان جلداً في العبادة يقول: وهي التي لا نطيق، فما يقول من دونه؟ وما كانت هذه الكلمة من ابن عمرو تثبيطاً عن هذا الخلق العظيم وإنما كانت بياناً لعظم منزلته وحاجته إلى المجاهدة العظيمة. نعم فالنفوس الكبيرة وحدها هي القادرة على تجاوز الإساءة ومقابلتها بالإحسان ومن ثم المحافظة على القلب نقياً والصدر سليماً. ضرب الإمام أحمد في زمن المعتصم ضرباً شديداً فلما كان زمن المتوكل أحس الإمام بأذى في ظهره فإذا هي لحمة فاسدة التأم عليها الجرح، ولم يكن بد من شق الظهر وإخراجها، قالوا: فلما أحس الإمام بألم المبضع وحر الشق قال: اللهم اغفر للمعتصم … فياسبحان الله يستغفر لمن كان سببا في ألمه!!! إنه منطق عظيم لا تعرفه القلوب الضيقة والنفوس الصغيرة. لا يحمل الحقد من تسمو به الرتب ولاينال العلا من طبعه الغضب ومن قبله كان يوسف عليه السلام مثلاً فذاً في سلامة الصدر، فبعد أن فعل به إخوانه ما فعلوا، وبعد أن صار في منزلة يقدر فيها على الانتقام أبى أن يثأر لنفسه ووفى لإخوته الكيل ثم قال لهم: لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ [يوسف:92]. فعفا عنهم ثم استغفر لهم، وأعجب من هذا أنه التمس لهم العذر فيما فعلوه مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَـٰنُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى [يوسف:100]. ومن قبل ذلك قال هابيل لأخيه وقد هم بقتله وتوعده لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ [المائدة:28]. وحضرت الوفاة أبا دجانة الأنصاري رضي الله عنه وكان وجهه يتهلل فقيل له في ذلك فقال: (ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً) [نزهة الفضلاء:1/42]. ووقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه على طلحة بن عبيد الله بعد مقتله ـ وقد كان بينهما في موقعة الجمل ما كان ـ فجعل يمسح عن وجهه التراب ويقول: يعز علي يا أبا محمد أن أراك مجدلاً تحت نجوم السماء! [حياة الصحابة:2/430]. ودخل على عليّ عمران بن طلحة بن عبيد الله فقال له علي: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ [الحجر:47]. [أسد الغابة:2/470]. ولج خصوم ابن تيمية في خصومته حتى أودعوه السجن وضيقوا عليه فلما مات أحد كبار أعدائه كان ابن تيمية أول من عزى أهله بل قال لهم: أنا أكون لكم مكانه!! وحين قال له محبوه: ألا تأذن لك فنؤذي من آذاك؟ قال لهم: إني قد أحللت كل من آذاني ولا أحل أحداً آذى أحداً بسببي!! ومرض الشافعي فعاده بعض أصحابه فقال له: قوى الله ضعفك! فقال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني! فقال: يا إمام والله ما أردت إلا الخير، فقال: أعلم أنك لو شتمتني ما أردت إلا الخير. واعجباه!! إنها قلوب تسامت عن ذاتها، وتعالت عن الغضب لنفسها. فأين من هؤلاء من يحمل على أخيه لمجرد أنه نسي دعوته إلى وليمة؟ وأين من هؤلاء من يحمل على أخيه لكلمة خرجت من غير قصد فيحملها على الشر وهو يجد لها في الخير محملاً؟ وأين من هؤلاء من يتميز غيظاً على أخيه لأنه سبقه بسيارته. وأين من هؤلاء من يجعل من ذهنه حاسوباً يسجل فيه كل صغيرة وكبيرة من هفوات إخوانه حتى إذا غضب على أحدهم أخرج له قائمة طويلة فيها الحوادث والأرقام والتواريخ؟ وأين من هؤلاء من لا يكاد يصفو قلبه لأحد فهو يحسد هذا، ويحقد على ذاك، ويغضب على الثالث، ويسيء الظن بالرابع، ويتهم الخامس وهكذا؟ |