أما بعد: ألا نعجب من رجلين صلى أحدهما إلى جوار الآخر، ركع كما ركع وسجد كما سجد، فلما انصرفا من صلاتهما كتب أحدهما في عليين، ورُدت صلاة الآخر في وجهه؟ ثم ألا نعجب من أنفسنا نقف بين يدي ربنا وخالقنا نتلو كتابه ونكثر دعاءه حتى إذا جاوزنا باب المسجد رجعنا إلى لهونا وغفلتنا، ولربما رأيت الرجل ينفتل من صلاته فما يجاوز باب مسجد حتى يشعل دخانه أو يطلق بالغيبة والنميمة لسانه؟ أوليست الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؟ فما لبعضنا لا تصده صلاته عما هو فيه؟ أي شيء فقدناه ففقدت صلاتنا أثرها؟ لقد فقدت صلاتنا روحها! أتدرون ما روحها؟ إنه الخشوع والخضوع والتذلل بين يدي رب كريم، قال المقدسي: واعلم أن للصلاة أركاناً وواجبات وسنناً، وروحها النية والإخلاص والخشوع وحضور القلب. [مختصر المنهاج]. إن الخشوع في الصلاة هو آية قبولها، ومقياس حسنها، وميزان جودتها، وفي الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط بسند فيه عباد بن كثير - وقد ضعف - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((من صلى الصلوات لوقتها وأسبغ لها وضوءها وأتم لها قيامها وخشوعها وركوعها وسجودها خرجت وهي بيضاء مسفرة تقول: حفظك الله كما حفظتني، ومن صلاها لغير وقتها ولم يسبغ لها وضوءها ولم يتم لها خشوعها ولا ركوعها ولا سجودها خرجت وهي سوداء مظلمة تقول: ضيعك الله كما ضيعتني حتى إذا كانت حيث شاء الله لفت كما يلف الثوب الخلق ثم ضرب بها وجهه))!! [الترغيب:572]. فانظر أي حسرة أعظم من أن ترد صلاتك في وجهك. وأشد من هذا وقعاً في القلب ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرجل ليصلي ستين سنة وما تقبل له صلاة، لعله يتم الركوع ولا يتم السجود، ويتم السجود ولا يتم الركوع))!! [رواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب بسند رجاله ثقات]. [الترغيب:739]. فتوهم نفسك هذا الرجل، تصلي ستين عاماً ثم لا تلقى في ميزانك شيئاً!! وقد شبه عليه الصلاة والسلام العجِل غير الخاشع الذي لا يتم ركوعه وسجوده بالجائع يأكل ما لا يشبعه، فعن أبي عبد الله الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل الذي لا يتم ركوعه وينقر في سجوده مثل الجائع يأكل التمرة والتمرتين لا تغنيان عنه شيئاً)) رواه الطبراني وأبو يعلى بسند حسن [الترغيب:737]. وجعل عليه الصلاة والسلام عدم الطمأنينة والخشوع في الصلاة ضرباً من السرقة، بل عده شر أنواع السرقة، قال عليه الصلاة والسلام: ((أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته)) قالوا: وكيف يسرق من الصلاة؟ قال: ((لا يتم ركوعها ولا سجودها)) [رواه أحمد بسند صحيح، الترغيب:734]. وانظر لتدرك عظم الأمر قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها)) [أبو داود والنسائي وابن حبان وهو حديث حسن، الترغيب:750]. وقال طاووس: إن الملائكة يكتبون أعمال بني آدم فيقولون: فلان نقص من صلاته الربع، ونقص فلان الشطر، وزاد فلان كذا وكذا. [مصنف عبد الرزاق:2/371 برقم 3741]. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن وجه دينكم الصلاة فزينوا وجه دينكم بالخشوع) [الأساس في السنة:2/781]. فقد تبين إذن أن روح الصلاة وجمالها وكمالها إنما هو في الخشوع، وهذا ما يفسر لنا قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـٰشِعُونَ [المؤمنون:1-2]. وقد تكاثرت النصوص الدالة على شرف الصلاة الخاشعة وجليل منزلتها وأنها ترفع الإنسان درجات وتغفر له ذنبه، روى مسلم في صحيحه عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)) [مسلم:228]. وفي حديث عمرو بن عنبسة الطويل: ((فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه)) فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله صلى اللهم عليه وسلم فقال له أبو أمامة: يا عمرو بن عبسة انظر ما تقول في مقام واحد يعطى هذا الرجل؟ فقال عمرو: يا أبا أمامة لقد كبرت سني ورق عظمي واقترب أجلي وما بي حاجة أن أكذب على الله ولا على رسول الله، لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً حتى عد سبع مرات ما حدثت به أبداً، ولكني سمعته أكثر من ذلك. [مسلم:1374]. فتأمل ما ذكرت لك وقلّب الطرف فيه وأعمل فيه فكرك وقلبك ثم عد من بعد إلى صلاتك لتقيسها بهذا الميزان الذي لا يكذب، قال الحسن: مثل الصلاة المكتوبة كمثل الميزان، من أوفى استوفى [الترغيب:761]. فزن صلاتك أيها الحبيب وانظر أين ستكون حينئذ؟ أين ستكون صلاتك؟ سؤال يحتاج إلى جواب صريح وإن كانت الصراحة مرة في بعض الأحيان . لقد عاتب الله الصحابة وهم في صدر الإسلام على قسوة قلوبهم فقال سبحانه: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله إلا أربع سنين) [مسلم:5352]. قال أبو الدرداء: (لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع، يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً) [الترمذي]. فما نقول نحن وقد طال بنا الأمد وتشتتنا في أودية الدنيا إلا من رحم الله. إن للخشوع أيها الإخوة علامات ودلائل وآيات بينات. فمن دلائل الخشوع السكون والخضوع وعدم الحركة والالتفات، قال الأعمش: كان ابن مسعود إذا صلى كأنه ثوب ملقى. [الترغيب:765]. وكان منصور بن المعتمر أسكن الناس في صلاته وكان ربما صلى في سطح داره، وبلغ من سكونه أن غلام جاره ظنه جذعاً منتصباً، فلما مات قال لأمه: يا أمه أين الجذع الذي كان في سطح آل فلان؟ قالت: يا بني ليس ذاك جذعاً، ذاك منصور قد مات. [الهمة:2/400 نقله عن الحلية]. وقال أحمد بن سنان: ما رأينا عالماً قط أحسن صلاة من يزيد بن هارون، يقوم كأنه اسطوانة [الهمة:2/417]. وقال بعض السلف وقد رأى مصلياً يعبث في صلاته: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه [الخشوع في الصلاة لابن رجب: 25]. ومن دلائله وآياته تعلق القلب بالصلاة وحبه لها ووجدانه الأنس والسرور فيها، كيف لا وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((أرحنا بها يا بلال))! قال سعيد بن المسيب: ما دخل علي وقت صلاة إلا وقد أخذت أهبتها، ولا دخل علي فرض إلا وأنا إليه مشتاق. [الحلية:2/162 عن صلاح الأمة:2/375]. وكان الإمام عاصم بن أبي النجود قارئ الكوفة محباً للصلاة وكان ربما ذهب لحاجة فإذا رأى مسجداً قال: مِل بنا، فإن حاجتنا لا تفوت ثم يدخل فيصلي! [السير:5/259 عن الهمة:2/397]. وقال ابن شبرمة: صحبت كرزاً في سفر، وكان إذا مر ببقعة نظيفة نزل فصلى. [الحلية:5/89 عن الهمة:2/402]. وبلغ من حب ثابت البناني للصلاة أنه كان يدعو فيقول: اللهم إن أذنت لأحد أن يصلي في قبره فائذن لثابت أن يصلي في قبره. [السير:5/222، عن الهمة:2/394]. ومن أمارات الخشوع كذلك: رقة القلب ودمع العين وأزيز في صدر المصلي كأزيز المرجل من البكاء، قال علي رضي الله عنه: لقد رأيتنا وما فينا نائم إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح. [الترغيب:763]. وقال ابن عجلان: بت ليلة عند الربيع بن خثيم فقام يصلي فمر بهذه الآية: أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيّئَـٰتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَوَاء مَّحْيَـٰهُمْ وَمَمَـٰتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21]. فمكث ليلته حتى أصبح ما جاوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد. وكان بكاء سفيان في صلاته يكاد يمنعه من القراءة، وهذا الفاروق رضي الله عنه ثبت في ترجمته أنه كان يصلي بالمسلمين أيام خلافته ويقرأ في صلاة العشاء وصلاة الفجر سورة يوسف، فيبكي حتى يسمع الناس نشيجه من آخر الصفوف، وكان في وجهه رضي الله عنه خطان أسودان من كثرة بكائه. وقال إسحاق: كنت أسمع وقع دموع سعيد بن عبد العزيز على الحصير في الصلاة. [الهمة:2/414]. ومن أماراته أن يأنس الإنسان بصلاته حتى ليكون فقده الدنيا أهون عليه من قطع صلاته والخروج منها، صلى الإمام البخاري يوماً في بتان فلما فرغ رفع قميصه وقال لبعض من معه: انظر أترى شيئاً؟ فإذا زنبور قد لسعه في سبعة عشر موضعاً وقد تورم من ذلك جسده، فقال له بعض القوم: كيف لم تخرج من الصلاة أول ما أبرك؟ قال: كنت في سورة فأحببت أن أتمها! [الهمة:2/421]. وصلى عباد بن بشر رضي الله عنه ليلة وهو يحرس المسلمين فرماه كافر بسهم فنزعه واستمر في صلاته فرماه بثان فنزعه حتى رماه بثلاثة أسهم ثم ركع وسجد فانتبه صاحبه، فلما رأى ما به، قال: سبحان الله أفلا أنبهتني أول ارمى؟ قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها! [أبو داود، عن الهمة:2/438]. ومن علامة الخشوع أن يستغرق المصلي في صلاته فلا يشعر بما حوله ولا بمن حوله، ولقد كان مسلم بن يسار إذا دخل المنزل سكت أهل البيت فإذا قام يصلي تكلموا وضحكوا! وكان يقول لهم: إذا صليت فتحدثوا فلست أسمع حديثكم! وصلى يوماً فانهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق، وإنه لفي صلاته ما التفت! [الهمة:2/387]. وصلى أبو زرعة الرازي إماماً عشرين سنة وفي محرابه كتابة، فسئل عن الكتابة في المحراب فقال: كرهه قوم ممن مضى، فقالوا له: هو ذا في محرابك كتابة أما علمت بها؟! فقال: سبحان الله رجل يدخل على الله ويدري ما بين يديه؟!! [الهمة:2/422]. وسرق رداء يعقوب الحضرمي وهو في صلاته فلم يشعر ثم رد إليه فلم يشعر لشغله بالصلاة. [السير:10/172، عن الهمة:2/418]. ولقد كان السلف رحمهم الله يحاسبون أنفسهم على الخشوع حساباً شديداً، ويعدون الغفلة في الصلاة والسهو فيها أمراً جللاً حتى لقد قيل لعامر بن عبد قيس: هل تحدثك نفسك بشيء من أمور الدنيا في الصلاة؟ فقال: لأن تختلف الأسنّة فيّ أحب إلي من أن أجد هذا [الأساس:2/789]. وروى مالك في موطئه أن رجلاً من الأنصار كان يصلي في حائط له في زمان الثمر والنخل قد ذللت وهي مطوقة بثمرها فنظر إليها فأعجبته ثم رجع إلى صلاته، فإذا هو لم يدر كم صلى؟ فقال: لقد أصابني في مالي هذا فتنة، فجاء عثمان رضي الله عنه وهو يومئذ خليفة فذكر ذلك له وقال: هو صدقة فاجعله في سبل الخير، فباعه بخمسين ألفاً. "يصلي ماكتب الله له صلاة محب ناصح لمحبوبه متذلل منكسر بين يديه لا صلاة مدل بها عليه يرى من أعظم نعم محبوبه عليه أن استزاره وطرد غيره وأهله وحرم غيره فهو يزداد بذلك محبة إلى محبته ويرى أن قرة عينه وحياة قلبه وجنة روحه ونعيمه ولذته وسروره في تلك الصلاة فهو يتمنى طولها ويهتم بفراقها كما يتمنى المحب الفائز بوصول محبوه ذلك، فهو كما قيل: يود أن ظلام الليل دام له، وزيد فيه سواد القلب والبصر" [طريق الهجرتين]. "فواأسفاه وواحسرتاه كيف ينقضي الزمان وينفد العمر، والقلب محجوب، ما شم لهذا رائحة وخرج من الدنيا كما دخل إليها وما ذاق أطيب ما فيها بل عاش فيها عيش البهائم وانتقل منها انتقال المفاليس فكانت حياته عجزاً وموته كمداً ومعاده حسرة وأسفاً" [ طريق الهجرتين:205]. يا ابن آدم أي شيء يعز عليك من دينك إذا هانت عليك صلاتك؟ قال حذيفة: إياك وخشوع النفاق! قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع. رأى عمر بن الخطاب رجلاً طأطأ رقبته فقال: يا صاحب الرقة ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب. قال حذيفة: (أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون الصلاة، ورب مصل لا خير فيه، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعاً) [تهذيب المدارج:276]. |