أما بعد: أرأيتم قط طالباً مجداً يقتحم لجة الامتحانات دون استعداد مسبق؟ أرأيتم قط تاجراً ناجحاً يقبل عليه موسم حي دون أن يتهيأ له من قبل؟ أرأيتم قط مزاراعاً يذر البذر ويرجو الحصاد؟ إنها سنة الله ألا يدرك إلا المجد، ولا يحصل إلا الباذل. إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ندمت على التفريط في زمن البذرِ وإذا كان الإنسان حريصاً أن يستعد لأمور دنياه ويتهيأ لها: فيذاكر الطالب، ويحتشد التاجر، ويبذر الزارع، إذا كان ذلك كذلك أفلا يستعد المسلم للطاعة ويتهيأ للعبادة؟ هانحن الآن على أبواب رمضان، لا تفصلنا عنه إلا أيام معدودة تمر مر البرق، وتنقضي انقضاء الحلم، فمن منا فكر في الاستعداد له، والتهيؤ لاستقباله؟ أتدرون ما مشكلتنا أيها الأحباب؟ مشكلتنا أننا في كل عام يأتينا رمضان ونحن غافلون، فنبدأ في الطاعة والعبادة من الصفر، ثم نرقى شيئاً فشيئاً فلا نكاد نجد طعم العبادة وحلاوة الطاعة إلا وقد انقضى رمضان، وانطوت صحائفه بما فيها من إحسان المحسن وإساءة المسيء! فنندم ونتحسر ونتألم، ونقول: نعوض في العام القادم، ويأتي العام القادم فلا يكون أحسن حالاً من سابقه، وهكذا حتى يحق الحق ويغادر الإنسان دنياه وهو كما هو!!! فإلى الله المشتكى. ولو أننا تذكرنا ما كان يقال عن أسلافنا، وأنهم كانوا يستقبلون رمضان قبل مجيئه بستة أشهر، لو تذكرنا هذا لعرفنا لماذا كانوا يجدون لرمضان طعماً لا نجده نحن، أو لا يجده على الأقل كثير منا. القضية إذا قضية الاستعداد لهذا الشهر بالعبادة والطاعة والبر. القضية إذا قضية اغتنام أوقات شهر شعبان المبارك حتى لا يأتي رمضان إلا وقد ارتقى الإنسان منازل عالية من الطاعة والعبادة. إننا يجب أن نفهم جيداً أن رمضان ليس فرصة لتعويد النفس على الطاعة والعبادة، ليس هو مجالاً للاستعداد، هو كلحظات الاختبار إما أن تنجح فيه أو تفشل، وليست دقائقه الغالية الثمينة بمحتملة للكسل حيناً والنشاط حيناً، ينبغي أن تجعل هذا التدريب وهذا التذبذب بين الطاعة والفتور في شعبان، أما رمضان فيجب أن يكون عبادة خالصة، وبراً خالصاً، وإنابة كاملة، إنه شهر الجنات أيها الأخ فهل ستضيع أيامه في البحث عن تذكرة الدخول فلا تحصل عليها إلا وقد غلقت الأبواب؟ هذا ما ينبغي أن نعيه جيداً ... ولقد كان الواجب أن يكون الاستعداد سابقاً لهذا الوقت، ولكن لا بأس ما تزال هناك فرصة ... مضى رجب وما أحسنت فيـه وهذا شهر شعبـان المبـاركْ فيامن ضـيع الأوقات جهـلاً بقيمتها أفق واحـذر بـواركْ تدارك ما استطعت من الخطايا فخير ذوي الفضائل من تداركْ تدارك أيها الأخ قبل ألا يكون تدارك. أتدري لم كان للعبادة في شعبان فضل على غيرها؟ لأنه مقدمة لرمضان، فاكتسب فضلا من هذه الجهة، والعلماء يقولون: إن لكل عبادة مفروضة مقدمة ومؤخرة، فالتقدمة يستعد بها لها، والمؤخرة يرقع بها ما حصل في العبادة من خروق. ثم إن شهر شعبان شهر تكثر فيه الغفلة وذلك لبعده عن مواسم الخيرات، إذ أن آخر عهد الناس بأزمنة البركة عشر المحرم، فيكون الذي يعبد الله في زمن الغفلة هذا أعظم أجراً، وفي الحديث الذي رواه أسامة بن زيد وأخرجه أحمد والنسائي [2317] بسند حسن [الترغيب:1511]. يقول صلى الله عليه وسلم عن شعبان: ((ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)). والنصوص الدالة على فضيلة الطاعة زمن الغفلة كثيرة متوافرة وحسبنا قوله عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يبغضهم الله، فرجل أتى قوماً فسألهم بالله عز وجل ولم يسألهم بقرابة بينه وبينهم فمنعوه فتخلفه رجل بأعقابهم فأعطاه سراً لا يعلم بعطيته إلا الله عز وجل والذي أعطاه، وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به نزلوا فوضعوا رؤوسهم فقام يتملقني ويتلو آياتي، ورجل كان في سرية فلقوا العدو فهزموا فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له...)) [النسائي:2570]. ولهذا المعنى كان يريد النبي أن يؤخر العشاء إلى نصف الليل وإنما علل ذلك لخشية المشقة ولما خرج على أصحابه وهم ينتظرونه لصلاة العشاء قال لهم: ((ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم)) [البخاري: باب النوم قبل العشاء]، [وانظر لطائف:282]. وكان بعض السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين ويقولون هي ساعة غفلة [لطائف:282]. وفي إحياء الوقت المغفول عنه فوائد: منها أنه يكون أخفى وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، ومنها أنه أشق على النفوس لقلة الموافقين، ومنها أن المنفرد بالطاعة من أهل المعاصي والغفلة قد يدفع البلاء عن الناس فكأنه يحميهم ويدفع عنهم. [لطائف:283-287]. وهكذا أيها الإخوة يكون العابد المجد في هذا الشهر قد حاز فضيلتين: حسن الاستعداد لرمضان، والذكر زمن الغفلة. ولعلك أن تقول: وما عساي فاعلاً؟ فأقول لك: اعلم أن كل عبادة متأكدة في رمضان فإنه يحسن بك أن تكثر منها في شعبان استعداداً وتهيؤاً .. ومن هذه العبادات: 1ـ الصوم: وهو من أعظم ما يفعل في هذا الشهر. قال ابن رجب رحمه الله: قيل في صوم شعبان أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط. [لطائف المعارف:289]. تقول عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثرمنه صياماً في شعبان. [البخاري:1969]. عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي صى الله عليه وسلم يصوم شهراً أكثر من شعبان فإنه كان يصوم شعبان كله وكان يقول: ((خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا)) [البخاري:1970]. قال ابن المبارك: هو جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال: صام الشهر كله ويقال قام فلان ليله أجمع ولعله تعشى واشتغل ببعض أمره. [الترمذي حديث رقم:736]. ويؤيد قول ابن المبارك رواية أخرى للحديث عند مسلم تقول فيها عائشة رضي الله عنها: كان يصوم حتى نقول: قد صام ويفطر حتى نقول: قد أفطر، ولم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلاً. [مسلم:1156]. وتقول عائشة رضي الله عنها: كان أحب الشهور إليه أن يصومه شعبان ثم يصله برمضان. [ابن خزيمة ـ صحيح الجامع:4628]. وعلى هذا يسن صيام هذا الشهر، ويتأكد صوم الأيام المستحبة في غيره كالاثنين والخميس والأيام البيض. ويستحب أن يعم بالصيام أول الشهر وأوسطه وآخره. وأما حديث أبي هريرة: ((إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان)) [رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه والدارمي وصححه الألباني في صحيح الجامع:397]. فيجاب عنه من ثلاثة وجوه: الأول: أن جهابذة من أهل الفن قد ضعفوا هذا الحديث كالإمام أحمد وابن مهدي وابن معين وابن المديني وأبي زرعة والأثرم وعدوه من الأحاديث المنكرة، بل قال أحمد: لم يرو العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه أنكر من هذا الحديث، وقال الأثرم: الأحاديث كلها تخالفه، وقال ابن رجب: أكثر العلماء على أنه لا يعمل بهذا الحديث. والثاني: أنه منسوخ، ذكره الطحاوي. [لطائف:292]. والثالث: أن يجمع بين الأحاديث بأن يقال: إن أحاديث الصوم تدل على صوم نصفه الثاني مع ما قبله، وعلى الصوم المعتاد في النصف الثاني، وحديث العلاء يدل على المنع من تعمد الصوم بعد النصف لا العادة ولا مضافاً إلى ما قبله. [انظر عون المعبود:6/461، حاشية ابن القيم]. قال الترمذي رحمه الله: ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن يكون الرجل مفطراً فإذا بقي من شعبان شيء أخذ في الصوم لحال شهر رمضان. [انظر كلامه عند الحديث رقم:738]. لكن على المسلم ألا يتعمد صيام آخر يومين من شعبان مالم تكن عادة لأن تخصيصهما قد يوهم الزيادة في رمضان، وفي الصحيحين: ((لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صوماً فليصم)). وللنهي عن تقدم صوم رمضان بصوم يوم أو يومين عدة حكم منها: الاحتياط لرمضان لئلا يزاد فيه ما ليس منه، ومنها الفصل بين صيام الفرض والنفل لأن جنس الفصل بين النوافل والفرائض مشروع، ولهذا نهي النبي أن توصل صلاة مفروضة بصلاة حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام، ولهذا شرع للمصلي أن يغير مكانه إذا قام للنفل، ومنها التقوي على صيام رمضان فإن مواصلة الصوم قد تضعف عن صيام الفرض. [لطائف:307-309]. ومن رحمة الله بنا أننا في زمن الشتاء الذي هو ربيع المؤمن، وفي الحديث الحسن عن عامر بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة)) [صحيح الجامع:3868]. قال بعض السلف: الشتاء ربيع المؤمن قصر نهاره فصامه، وطال ليله فقامه. |