أيها الإخوة المسلمون، المجتمع المسلم مجتمع رحمة ومودة ومحبة وشفقة، رحماء بينهم، وعلى هذا المبدأ يقوم الدين وتبنى الحضارات، والحضارة الحقيقية هي حضارة الأخلاق والشيم والسلوك والقيم. ولكن -عباد الله- هناك سلوك آخر يخلو من الرحمة والشفقة ومن معاني الإنسانية، وينتهك أبسط الحقوق الأسرية، ويرسي دعائم التسلط والصلف والعنف والعنصرية. هذا السلوك الخاطئ -أيها الإخوة- بدأ يزيد وينتشر داخل أسرنا ومجتمعاتنا، لا يقل خطره عن الإجرام والإفساد في الأرض. إنه -أيها الإخوة- العنف الأسري، هذا السلوك الغريب الذي يخالف كل القيم والأعراف والأخلاق، ومن المؤسف -أيها الإخوة- أن هذا العنف الأسرى بدأ ينهش في جسد كثير من الأسر، وظهرت مآسي أسرية تنبعث منها رائحة الألم والعذاب، وما خلف الستار لا يعلمه إلا الله، فالعنف الأسري هو أشهر أنواع العنف البشري انتشارًا في زمننا هذا، ورغم أننا لم نحصل بعد على دراسة دقيقة تبين لنا نسبة هذا العنف الأسري في مجتمعنا إلا أن آثارًا له بدأت تظهر بشكل ملموس على السطح؛ مما ينبئ أن نسبته في ارتفاع وتحتاج من كافة أطراف المجتمع التحرك بصفة سريعة وجدية لوقف هذا النمو وإصلاح ما يمكن إصلاحه. وللأسف -عباد الله- انتشر في بيوتنا جفاء بين الأب و أبنائه، بين الأم وأبنائها، وبين الزوج وزوجته، وأكثر المتضررين من هذا العنف للأسف الشديد الأطفال، فلماذا كل هذا وهم أحباب الله؟! ثم النساء في المرتبة الثانية وهن أرق مخلوقات الله. أيها الإخوة، يلجأ بعض الرجال إلى الشدة والعنف ظنا منهم أنهم بذلك يحكمون السيطرة ويسيرون أمور بيوتهم وحياتهم بالطريقة المثلى التي من شأنها أن تنشئ جيلا مهذبا ومثقفا، والحصول على زوجة مطيعة تحفظ البيت والأولاد، لكن هذا السلوك ليس من شأنه إلا أن يهدم بيوتا ويشرد نساء وأطفالا، كما أنه يتسبب في انتشار الكثير من الحالات النفسية والاضطرابات السلوكية لدى النساء والأطفال الذين يعيشون في وسط ينتشر فيه العنف وتسير حياته العصا. وتشير إحصائية صادرة من وزارة الداخلية بأن حالات العنف الأسرية في المملكة تشكل 80 بالمائة من إجمالي الحوادث، كما سجلت إحصائية حديثة صادرة عن الإدارة العامة للحماية الاجتماعية ارتفاعا مذهلا في حالات العنف والإيذاء الموجة للأطفال والنساء والبنات. أحبتي في الله، إن كان العنف يطال النساء من الزوجات ويطال البنات والأولاد من المراهقين والمراهقات، فإنه يطال الأطفال أيضا ويعاملون به في بعض البيوت التي لا تملك درجة عالية من الوعي والفهم الصحيح لأسلوب التعامل مع الأطفال والصغار، فبعض الآباء يرتكب حماقة مع الأطفال فيرتكب ألوانا من العقاب غريبة وعجيبة تفضي إلى حوادث مؤلمة دون مراعاة واعتبار لرقة الطفولة وبراءتها. واسمعوا إلى هذه القصة المؤلمة: طفل كان يلعب داخل المنزل فكسر زجاج النافذة، فجاء أبوه إلى البيت ورأى الزجاج قد انكسر وتهشم على السجاد، فسأل بغضب ورفع صوته يصرخ بعنف وغلظة: من كسر النافذة؟ فقيل له: فلان، فلم يتمالك نفسه أن التفت يبحث عن شيء يريد أن يضرب به هذا الطفل ليؤدبه على فعله، فوجد عصا في حوش المنزل ولم ينتبه إلى ما في رأسها من مسامير قديمة قد أكلها الصدأ، فضربه بالعصا على يديه، وبعد فترة من الزمن بدأت يداه يتغير لونها، فتم نقله إلى المستشفى وإذا بالطبيب بعد الكشف عليه يقرر أن بها غرغرينا ويجب أن تقطع قبل أن تنتشر في باقي الجسد. وبالفعل تقطع يد الطفل البريء، وبعد خروجه من المستشفى يقول لأبيه: يا أبت كيف ألعب مع زملائي ويدي مقطوعة؟! فإذا بالأب ينهار ويبكي بكاء مريرا، ولكن بعد فوات الأوان. وكم سمعنا وقرأنا في الصحف اليومية عن أنواع وأشكال من هذا العنف! أيها الإخوة المسلمون، إن للعنف الأسري الموجه ضد النساء والأطفال أثره الكبير على الحياة الاجتماعية، فالأطفال من كلا الجنسين نتيجة السلوك العنيف الموجه ضدهم تنتابهم الانطوائية أو العدوانية، وفي حال الانطوائية يصبح الطفل بعد بلوغه وزواجه ضعيف الشخصية أمام زوجته وأولاده، وكذلك الأم التي تتعرض للعنف تصاب بالشيء ذاته، فالذين تعرضوا له في الصغر أثر عليهم سلبا في الكبر حيث دمر شخصياتهم وجعلها مستكينة مهضومًا حقها وغير قادرة على إدارة شؤونها. أما العدوانية فينتج عنها أشخاص ذوو طبيعة حادة تميل للعنف والحصول على مرادها بالقوة حتى لو كان في ذلك ضير على الجميع. والأطفال الواقعون تحت وطأة العنف قد ينفسون عما يعانون منه بسلوكيات عدوانية ضد مدرسيهم وزملائهم، وقد يكونون خطرين في بعض الأحيان. أما عن المرأة والزوجة فهي نتيجة العنف سواء داخل أسرتها قبل الزواج أو خارج أسرتها بعد الزواج، فهي تسعى في معظم الحالات لتحمل ما لا يطاق، إما خوفا على نفسها من الأذى أو على عائلتها وأطفالها، ولهذا تأثيره الكبير عليها من الناحية النفسية والجسدية، فقد تصاب بأمراض عضوية مختلفة جراء الضغوطات النفسية التي ترزح تحتها، ناهيك عن الأذى البدني الذي يلحق بها. إن ظاهرة العنف من أكثر المظاهر خطرا على الأسرة والفرد والمجتمع، تؤدي إلى اهتزاز الشخصية خصوصا عند الأطفال، بل وينشأ عندهم أساليب خطيرة في العلاقات والسلوك، فالطفل الذي يتعرض للضرب المبرح والشتم والسب ينشأ معقدا نفسيا وذا عدوانية بغيضة، بل ويبدأ عنده الكره للوالدين، فيصبح عاقا لوالديه. يحدث أحدهم أن طفله كان يعاني من مشكلة سلوكية وهو أنه يتبول في فراشة عند النوم، وهذا بسبب تخويف الأطفال وضربهم، وحينما بحث عن المشكلة وجد أن أمه تضربه ضربا مبرحا إذا تبول على فراشه مما أثر على نفسية الطفل، والنتيجة انفصام في الشخصية وضعف في إدراك العقل. فلماذا -أيها الإخوة- هذه القسوة وهذا العنف مع الأطفال الأبرياء؟! إن العنف مع هؤلاء ينتج عنه الانطواء والخجل والخوف من الكبار وقبول الخنوع والخضوع والرضا بالذلة والمهانة، بل ويفضي إلى الفرار من المنزل، وكم سمعنا من فتيات وأولاد ونساء هربوا من منازلهم بسبب التسلط عليهم والقسوة في المعاملة! وكم نسمع من يضرب زوجته باستمرار ضربا عنيفا فيؤثر في جسدها بسبب أمر تافه حقير! وآخر يضرب أخواته ليل نهار لأمور بسيطة لا تستحق ذلك! بل إن بعض الآباء ليس في قلبه الرحمة على بناته المسكينات حتى إننا سمعنا من كوى ابنته بالنار بلا رحمة ولا شفقة. فهذه فتاه أرسلت إلى والدها رسالة تقول: يا أبت، لا تلمني حينما طالبت الجهات المختصة بأن تنزع حضانتي منك، لقد فعلت ذلك هربا من بطشك وبطش زوجتك الأخرى، وأنت تفعل ذلك انتقاما من أمي التي انفصلت عنك بسبب سوء المعاملة التي كنت تعامل بها أمي، فما ذنبي يا أبتي؟! أيها الإخوة الكرام، أثبتت الدراسات على مستوى العالم الغربي والعربي أيضًا وبما فيها السعودي أن أبرز المسببات للعنف الأسري وأكثرها انتشارًا هو تعاطي الكحول والمخدرات،يأتي بعده في الترتيب الأمراض النفسية والاجتماعية لدى أحد الزوجين أو كليهما، ثم اضطراب العلاقة بين الزوجين لأي سبب آخر غير المذكورين أعلاه، ثم قلة الوعي داخل الأسر والمجتمعات. هذه الرسائل -عباد الله- التي تصل إلى مسامعكم وهذه القصص -أيها الإخوة- وغيرها كثير لا يتسع المقام لذكرها تجعلنا نعيد النظر في المعاملة مع الأطفال والنساء والبنات، نعاملهم معاملة عطف ورحمة وحنان وشفقة، بل الواجب أن يلتفت كل واحد منا إلى أسلوب معاملته في بيته لزوجته وأطفاله وأولاده وبناته؛ ليعلم كيف يأسرهم بحبه لا بسوطه وغضبه، وليعلم كيف يحضنهم بقلبه لا أن يحضنهم بالعصا والسوط والمعاملة القاسية، فإن ظاهرة العنف -عباد الله- أصبحت ظاهره خطيرة في بيوتنا، لا نعرف كيف نعامل الأطفال، ولا كيف نعامل النساء، ولا كيف نعامل البنات، ولا كيف نعامل الخدم والعمال، ولا يعني هذا الكلام أننا ننهى عن الأدب والعقاب، ولكن بأسلوب تربوي على نهج سيدنا محمد الذي كان -بأبي هو وأمي- يعامل أهل بيته معاملة راقية ليس لها مثيل، روى البخاري ومسلم رحمهما الله أن الأقرع بن حابس رضي الله عنه جاء إلى رسول الله فرآه يقبل الحسن بن علي، فقال: أتقبلون صبيانكم؟! فقال له الرسول: ((نعم))، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم، فقال عليه الصلاة والسلام: ((من لا يرحم لا يرحم)). هذه الرحمة النبوية من الله وهذا النبي العظيم في معاملته افتقتده بعض الأسر في ضغوطات الحياة وتزايد أعباء المعيشة وقلة العلم وضعف الروابط الأسرية، بل كان يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه)). وهذا رجل جاء إلى النبي فقال: أوصني، فقال: ((لا تغضب)) قالها ثلاث مرات. وإني لأعجب -أيها الإخوة- من آباء وأمهات طالما يرفعون أصواتهم بالدعاء على أولادهم: اللهم افعل بهم، اللهم خذهم، اللهم افعل بهم... يدعون على أولادهم، وقد جهلوا أو نسوا قول النبي : ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن))، وذكر منها: ((دعوة الوالد على ولده)). فاتقوا الله عباد الله، وأحسنوا المعاملة مع أسركم، ولتكن بيوتكم منشأة على الحب والحنان والعطف والإيمان، وعلى طاعة الملك الديان؛ تسعدوا في الحال والمال. اللهم ألف بين قلوبنا، وأنزل على قلوبنا الرحمة والشفقة، واجعلنا من عبادك الصالحين. |