أما بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله حقَّ تقاته، واحمدوه على آلائه، واسألوه المزيدَ من نعمائه، واصبِروا على مُرِّ قدَره وقضائه، وحاذروا أن تزلَّ بكم قدَم، ومَن هَدمَ دينَه كان لمجدِه أهدَم. عباد الله، حديثنا اليوم عنوانه: أمُّ المؤمنين خديجة رضي الله عنها وظلم المؤامرة. وقبل البدء في الحديث تعالوا لنلقي الضوء في عجالة على سيرة هذه الطاهرة سيدة نساء ربِّ العالمين في زمناها، وممن كمل من النساء، العاقلةُ الجليلة الدَّيّنة المصونة الكريمة التي سميت في الجاهلية بـ: (الطَّاهرة). هي من أرسل اللهُ جلَّ جلاله من فوق سبع سماواته جبريلَ عليه السلام ليقرئها السلامَ مِن ربّها عزّ وجلّ، ويبشرها ببيت في الجنة من قصب أي: لؤلؤ مجوف، لا صخب فيه ولا نصب. هي من كان رسول الهدى محمد إذا ذكرها لم يكد يسأم من الثناء عليها والاستغفار لها، ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين، ويبالغ في تعظيمها. كيف لا وهي حبيبة رسول الله الأمين، وبطانة الصدق للنبي الكريم، التي لم يكن يُقدِّم عليها غيرها؟! هي أول من آمن برسول الله ، وثبَّتَت جأشه، ولما جاءها وقد رأى جبريل عليه السلام قال لها: ((لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي))، قَالَتْ لَهُ: كَلاَّ وَاللهِ، مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ. ثُمَّ ذَهَبَتْ بِهِ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوفَلِ بْنِ أَسَدٍ، وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَمِيَ. متفق عليه. هذه خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، القرشية الأسدية، أم القاسم بن محمد رضي الله عنها وأرضاها. نسبٌ كالدُّرِّ المتلألئ، وعفافٌ مقدَّسٌ لم يسمع بالخنا، وسمو لا يقترب من السفول، وإباء يستكبر على الخنوع، وولاء لله ولرسوله لا تدور بخلَده الخيانة، وبراءٌ من أعداء الدين لا يمسه خور ولا ملاينة، وعكوفٌ على حسن تربية أبنائها حتى أخرجت لنا سيدات بيت النبوة: رقية، وزينب، وأم كلثوم، وفاطمة؛ سيدة نساء أهل الجنة، رضي الله عنهن. ملكت المال الوفير، ولكنه لم يملكها، ولم يجد إلى قلبها سبيلًا، ولم تخرج يومًا من أجله تزاحم الرجال، لم تغش نواديهم، ولم تبادلهم الابتسامات والضحكات. لم تقل يومًا: أنا كالرجال؛ فتخرج تزاحمهم في الأسواق وتسافر للتجارة مع القوافل، بل بقيت في بيتها مصونة مكرَّمة عفيفة، واستأجرت من يتَّجر لها؛ استأجرت رجالًا من قريشٍ، ثم لما رأت عفاف وصدق وأمانة سيّد الخلق محمد جعلته هو الذي يتَّجر لها مع مولاها ميسرة، مع أنها رضي الله عنها عاشت وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، قبل نزول الأمر بالحجاب بثمان سنين، وقبل نزول أحكام تعامل النساء مع الرجال، ولكنها فطرة العفاف والتصوّن التي فطرها المولى عزَّ وجلَّ عليها، فاستحقت في الجاهلية لقب: (الطاهرة). يقول ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في وصفه لَهَا: قَدِمْتُ مَكَّةَ فِي عُمُومَةٍ لِي، نَبْتَاعُ مِنْهَا مَتَاعًا، وَكَانَ فِي بُغْيَتِنَا شِرَاءُ عِطْرٍ، فَأُرْشِدْنَا عَلَى الْعَبَّاسِ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ إِلَى زَمْزَمَ، فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ، فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَابِ الصَّفَا، أَبْيَضُ تَعْلُوهُ حُمْرَةٌ، لَهُ وَفْرَةٌ، جَعْدٌ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ، أَشَمُّ، أَقْنَى، أَذْلَفُ، بَرَّاقُ الثنَايَا، أَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، دَقِيقُ الْمَسْرُبَةَ، شـَثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَبْيَضَانِ، كَأَنَّهُ الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، يَمْشِي عَلَى يَمِينِهِ غُلامٌ أَمْرَدُ، حَسَنُ الْوَجْهِ مُرَاهِقٌ، أَوْ مُحْتَلِمٌ، تَقْفُوهُمُ امْرَأَةٌ قَدْ سَتَرَتْ مَحَاسِنَهَا، حَتَّى قَصَدَ نَحْوَ الْحَجَرِ، فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ اسْتَلَمَ الْغُلامُ، ثُمَّ اسْتَلَمَتِ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَالْغُلامُ وَالْمَرْأَةُ يَطُوفَانِ مَعَهُ، ثُمَّ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَكَبَّرَ، وَقَامَ الْغُلامُ عَنْ يَمِينِهِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَامَتِ الْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا فَرَفَعَتْ يَدَيْهَا وَكَبَّرَتْ، وَأَطَالَ الْقُنُوتَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، فَقَنَتَ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ الْغُلامُ وَالْمَرْأَةُ مَعَهُ، يَصْنَعَانِ مِثْلَ مَا يَصْنَعُ وَيَتَّبِعَانِهِ، قَالَ: فَرَأَيْنَا شَيْئًا لَمْ نَكُنْ نَعْرِفُهُ بِمَكَّةَ، فَأَنْكَرْنَا، فَأَقْبَلْنَا عَلَى الْعَبَّاسِ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا الْفَضْلِ، إِنَّ هَذَا الدِّينَ لَمْ نَكُنْ نَعْرِفُهُ فِيكُمْ، أَشَيْءٌ حَدَثَ؟ قَالَ: أَجَلْ، أَمَا تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قُلْنَا: لاَ. قَالَ: هَذَا ابْنُ أَخِي مُحَمَّدُ بن عَبْدِ اللهِ، وَالْغُلامُ عَلِيُّ بن أَبِي طَالِبٍ، وَالْمَرْأَةُ خَدِيجَةُ بنتُ خُوَيْلِدٍ، امْرَأَتُهُ، أَمَا وَاللهِ، مَا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى هَذَا الدِّينِ إِلا هَؤُلاءِ الثَّلاثَةُ. رواه الطبراني بإسناد جيد. أيها الإخوة الكرام، في الأسبوعين الماضيين انتهى مؤتمر تغريب المرأة في المملكة العربية السعودية هنا في جدة في هذه البلدة الطيبة الطيب أهلها بتنظيم من الغرفة التجارية بجدة، وكان عنوانه: (واقعية مشاركة المرأة في التنمية الوطنية)، حيث خرج هذا المؤتمر بتوصيات فيها مناقضة لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ودستور هذه البلاد، وليس المقام مقاما لعرض تلك التوصيات الآثمة. وانتهى أيضا في مدينة الرياض بتنظيم من جامعة الملك سعود والغرفة التجارية بالرياض ندوة: (البيئة التنظيمية والتشريعية لنظام العمل الجزئي والعمل عن بعد للمرأة في المملكة العربية السعودية)، حيث خلصوا بتوصيات متوافقة مع ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ودستور هذه البلاد، والمقام أيضا ليس لذكر تلك التوصيات. والسؤال الذي دفعني لتناول هذه الخطبة بعد الإعذار إلى الله: لماذا نحن في محافظة جدة نوضع ميدانا لتمرير حركة التغريب إلى هذه البلاد المباركة؟ هل نحن أضعف ديانة من غيرنا؟ هل التنوع السكني هو السبب وراء ذلك؟ أم هل نحن فعلا لدينا القابلية الكافية بحيث وجد هؤلاء المجرمون بغيتهم فينا؟ هل أصبحت المرأة عندنا ضعيفة؟ أم هل قوامة الرجل منعدمة؟ أم هل النخوة والرجولة مفقودة بحيث يصطاد هؤلاء نساءنا من بين أيدينا؟ الأسئلة كثيرة والجواب لكم أيها الفضلاء. هل -يا عباد الله- هؤلاء القائمون على مركز السيدة خديجة بنت خويلد بالغرفة التجارية بجدة سائرون حقا على خطاها، أم أنهم اتخذوا الاسم مظلة للتشويش على العامة؟ إنّ النّاظر إلى أهداف هذا المركز وإلى تاريخه منذ إقامته لا يكاد يرى إلاّ مخالفةَ سيرتها، والبراءةَ من طريقتها، والسيرَ على خطى أعدائها من مستغربين وغيرهم، وإنّ نظرة سريعة في تاريخ استضافات المركز وأعماله وطروحاته تجعل اللبيب يوقن أنه مركز دعيّ، و(الولد للفراش) لا لمن يدعى النسبة إليه، وقد جاء في الصحيحين قال : ((لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لاَدَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ)). ذَكِّرُوهَا بِاللهِ، وَاقْرَؤُوا عَلَيْهَا: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . إن هؤلاء أمَرَهم الله تعالى بالاعتصام بكتابه وسنة نبيه، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ، فأبوا إلا التحلل من شرعه وتنكب طريق نبيه. وإنَّ نظرةً سريعة في الصور التي بثتها وسائل الإعلام تظهر أنّ هؤلاء القوم لا علاقة لهم بأمنا خديجة رضي الله عنها، فلا ترى إلاّ اختلاطًا، وتلاحمًا بالأجساد، واستعراضًا بالملابس، فالوجه والشعر مكشوفان، بل والسيقان والنحور. وأمنا خديجة في أول البعثة وقبل نزول الحجاب بثمان عشرة سنة كانت تستر محاسنها، ولا تختلط بالرجال، ولا تغشى نواديهم، ولا تخرج إلى السوق، ولا تسافر من أجل تجارة، كما تريد القائمات على هذا المنتدى. أيها الإخوة، ما علاقة أمنا خديجة بمغنية مجلوبة تصدح بالغناء ووراءها فرقة موسيقية أمام المجتمعين؟! وما علاقة أمنا خديجة بتدريب فتيات يغنين على أنغام الموسيقى؟! وما علاقة أمنا خديجة بالتبرج والسفور الذي ملأ ردهات مقر المنتدى؟! وما وجه الاقتداء بخديجة حين تصرح إحداهن بأنها من خلال منتداها تشكل قوة تضغط على أصحاب القرار لتعيين كبار موظفي وقياديي الدولة؟! وما وجه الشبه بين أمنا خديجة الْمُصلِحَة وبين المنتدى الذي تصرح القائماتُ عليه أنهن سيغيرن المجتمع شاء أم أبى، وأنهن في طريق فرض ذلك، ولا يهمهن ما يقال عنهن؟! وهل أمنا خديجة العفيفة المصونة كانت تراسل وزيرات وسفيرات فارس والروم والحبشة، وتقيم علاقات معهن، وتستضيفهن، وتطلب من الصحابيات أن يستفدن من تجاربهن في نيل حقوقهن كما فعلت القائمات على المنتدى من جلب من لا تعرف بدين ولا علم لتتحدث عن تجربتها في السعي للتفلت من الدين والخلق؟! إننا نعرف من سيرة أمنا خديجة رضي الله عنها أنها أسهمت في إصلاح المجتمع؛ بِحَثِّ نسائه على الاعتصام بالكتاب، والاقتداء برسولنا محمد ؛ ليتحقق الإصلاح الحق، وأما المتآمرات فقد خرجن لحث النساء على التفلت من أوامر الكتاب والسنة باسم التقدم، وترك الموروث القديم، والسير في ركب المدنية الغربية، ورفع الصوت لتسمعه المنظمات الدولية للضغط على بلادنا. نحن نعلم من سيرة أمنا خديجة رضي الله عنها أنها ما زاحمت الرجالَ يومًا على منصب وزارة، ولا كشافة، ولا جندية، ولا محاسبة، بينما هذه القضايا هي أهم القضايا التي يهرول هذا المركز وراءها لاهثًا. أيها الإخوة، نحن نعلم من سيرة أمنا خديجة رضي الله عنها التي لشدّة اعتصامها بكتاب ربها وسنة نبيها نالت شرف سيدة نساء الدنيا، فما علاقتها بالصور الكاريكاتورية التي تم توزيعها بين الحاضرات، وفيها استهزاء بالقوامة والمحرم وقرار المرأة في بيتها والحجاب، وكلها أحكام ثابتة بالكتاب والسنة؟! ثم هل قامت الطاهرة النقية العفيفة أمنا خديجة رضي الله عنها بالضغط ودفع النساء ليعملن أجيرات عند الرجال لنيل حقوقهن كما تطالب المؤتمرات؟! ونحن نعلم من سيرة أمنا خديجة رضي الله عنها أنها اعتزلت الرجال إلاّ زوجها ومحارمها، وعكفت على تربية بناتها حتى أخرجت لنا سيدات بيت النبوة دون الخوض في لغطِ وصخبِ الأسواق؛ لذلك كافأها الله تعالى بجزاء من جنس عملها، فبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب، بينما نرى المنتدى يدفع بالنساء دفعًا إلى حيث الصخب والنصب، ومزاحمة الرجال بالأكتاف والركب، فكيف يصح هذا الانتساب؟! نحن نعلم أن خديجة رضي الله عنها أصلحت في الأرض بعد فسادها، أما هذا المنتدى فنراه من وسائل الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، فكيف ينسب إليها؟! وكيف يرضى به فئام من الناس؟! أبعد هذا كلِّه يصح انتساب المنتدى إلى أمنا خديجة رضي الله عنها، وأن يرضى الناس بأن يُعقد في بلاد التوحيد ومهبط الرسالة ومأرز الإسلام؟! لا والله، لا نرضى، ونبرأ إلى الله مما فعل هؤلاء، بل ونسأله تعالى أن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومما فعل السفهاء فينا، ونعوذ به من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وأن يردنا إليه ردًّا جميلًا. آمين. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم... |