أمَّا بعد: أيُّها المسلمون، فإنَّ الوصيَّةَ المبذولةَ هي التقوى، فالزموها سرًّا ونجوى؛ يكُن الله لكم في كلِّ حال، ويُعقِبكم دومًا خير مآل، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1]. أيُّها المسلمون، في دُورِنا وتحتَ سقوفِ منازلِنا أبشارٌ غَضَّةٌ وأجنِحةٌ كثيرة، وفي أَغصَان دَوحِنا أعوادٌ طريَّةٌ وبراعِمُ ناشئة، إنها براعمُ لم تُزهِر وزهورٌ بعدُ لم تُثمِر، أولئك هم الأطفال، ثمراتُ القلوب وقِطَع الأكباد، أطفالُنا عَجزٌ تحت قُدرتنا، ومسكنةٌ تتفيَّأُ قوَّتنا، وهم مستقبلٌ مرهونٌ بحاضِرنا، وحياةٌ تتشكَّل بتربيتنا وتُصاغ بها، وهم بعد ذلك كلِّه هم بعضُ الحاضر وكلُّ المستقبل. الطفولةُ -أيها المسلمون- كهفٌ يأوي إليه الكبارُ، فيغسِلوا همومَهم في براءة أطفالهم، ويجتلوا جمالَ الحياة في بَسَمات صبيانهم. أفصحُ تعبيرٍ يستمطِر الحنان تأتأةُ طفل، وأبلغُ نداءٍ يستجيشُ الحبّ لثغةُ صغير، الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف: 46]. وهم نِعمٌ بين أيدينا سانِحة، ومِنَنٌ غادِيةٌ علينا ورائِحة، ولقد جاءَت شريعةُ الله راعيةً للطفولة حقَّها، مُحيطةً بحقوقِ الطفل المعنويّة والحِسِّيَّة، من حين كونه جنينًا إلى أن يبلغَ مبلغَ الرجال. وبرزت العنايةُ بالجانب النفسي والمعنوي بالطفل في سيرةِ نبيِّنا محمّد وتوجيهاته؛ فقد كان يُمازِح الصبيان، ويُؤاكِل الأيتام، ويمسح على رؤوسهم، وقال: ((أنا وكافِل اليتيمِ في الجنة كهاتين))، وقال: ((من عالَ جارِيَتين دخلُ أنا وهو الجنة كهاتين)) وأشار بأصبُعيه، وقال: ((ليس منَّا من لم يرحَم صغيرنا))، وأمر بكفِّ الصبيان عن اللعب حين انتشار الشياطين، واستعجَل في صلاتهِ حين سمِع بكاء طفل، ونهى أن يُفرَّق بين الأَمَة وولدها في البيع. بل وسِعَت شريعتُه حتى أولاد البهائم؛ فأمَر من أخذ فِراخَ طائرٍ أن يرُدَّها، وقال: ((من فجِعَ هذه بولدها؟))، كما ورد النهي عن التفريق بين الشاة وولدها. حتى إنه حفِظ حقَّ الجنين وإن كان نُطفةً حرامًا، فأمر المرأةَ التي زَنَت أن تذهَب حتى تضعَ طفلَها، وأخَّر إقامة الحدِّ حفظًا لحقِّ الوليد حين وضَعَتْ ولدَها؛ فأمَرها أن تعودَ حتى تستكمِل سنتَيْ رضاعته. بل وفي أهمِّ فروض الدين وأشدِّها تعظيمًا كان عليه الصلاة والسلام يُصلِّي وهو حامِلٌ أُمامة ابنةَ بنتِه زينب رضي الله عنهما، ويُصلِّي وهو حاملٌ الحسنَ ابن ابنته فاطمة رضي الله عنهما، وحين سجَد عليه الصلاة والسلام فركِبَ الحسن على ظهره أطال لأجله السجودَ، وحين سُئِل عن ذلك قال: ((إنَّ ابني هذا ارتحَلَني، فكرهتُ أن أُعجِلَه حتى يقضي حاجتَه)). فلم تمنعه خشيتُه لربّه ولا وقوفُه بين يديه من ملاطفةِ الصغار ومراعاةِ مشاعرهم. أيّها المسلمون، وهل الطفولةُ والأطفال في حاجةٍ للتّذكير بحقّهم واستثارة المشاعر نحوهم رغم أن الفطرة داعية لذلك والطبع مُنساقٌ وميَّالٌ كذلك؟! يقال بكلِّ أسى: نعم؛ فرغم كثرة ما أنتَجَتْه المدنيَّةُ الحديثة من خيرٍ، إلا أن ثمَّةَ أنماطًا سلوكيّة، وظواهر لم تعُد خفيَّة أصبَحنا نتبيَّنُها في مجتمعاتنا، وما كانت فيها من قبل. فتحت ضغوط الحياة اليومية وكثرة الأمراض النفسية والجرأة على تعاطي المُؤثِّرات العقلية وُجِد فئةٌ من الآباء والأمهات غاضَ نبعُ الحب في قلوبهم، وأسقطَ خريفُ القسوة أوراق الحنان من نفوسهم، فاستُلِبَت من بين جوانحهم إنسانيتهم، وكانت أوّل ضحايا ذلك الاستلاب هم الأطفال. فكم بين جُدران البيوت وأسوار المدارس من طفولةٍ مُنتَهَكة وبراءةٍ مُغتالة، يتعرَّضُ الأطفال في صُوَرها للضغط النفسي والعنف البدني والتعذيب الجسدي. ترى ذا الخمسةِ أعوام يُقلِّب عينين ماؤهما الطُّهْر وبريقُهما البراءة، يُقلِّبُها في أبيه القادم إليه، ويخفِقُ فؤادُه الغضُّ لمرأى أبيه، مُنتظرًا منه ضمَّةً أو قُبلة، فإذا لسعُ النار يفجَؤُه، أو الضرب العنيف يتلقَّفُه، وسلاحُ الطفل -ويا لسلاحِه!- أنَّاتٌ متقطِّعة وزَفَراتٌ مُتحشرِجة، وقد غابَ المُعين والناصر. واستعِن -أيها السامع- بخيال شاعرٍ أو سُبُحات أديب لتتصوَّر ما الذي يُحسُّه ذلك الطفل ويشعُر به، وكيف تُوأدُ في نفسه كلّ مباهِج الحياة، ويغيضُ في مُخيِّلته كلّ جميلٍ يبلُغه خيالُه الحالِم. وثمَّة طفلٌ لم تجد أمُّه المُضطربة نفسيًّا ما تُفرِغُ فيه اضطرابها إلا جسدَ طفلها، وكم يحدث في المجتمع من أمثال هذه الانتهاكات، وكم تُمارَسُ هذه الوحشيّة داخلَ البيوتات، ولا يشعر بها جيرانٌ ولا أَهل؛ فقد أساء آباء لأطفالهم، وعذَّبَت زوجاتٌ أولادَ أزواجِهن، ولم يسلَم الأطفالُ حتى من أذيَّة عامِلات المنازل، وعاش من عاش منهم مُشوَّهَ الإنسانية مُتَّشِحًا بالعدوانية، له مستقبلٌ قاتِم، وربما احترف الجريمة والانحراف، فخسِر نفسه ثم خسِرَه المجتمع. أيها المسلمون، إنَّ هذه المظاهرَ ليست بحمدِ الله عامّةً ولا شائعة، ولكنّها توجد بقَدرٍ غيرِ قليل، وإنَّ من أعظم أنواع الاحتساب أن يحتسِب المجتمع في رفعِ الظلم عن هذه الفِئة؛ خصوصًا إذا كان الظّلم واقعًا من ذوي القُربى. وظلمُ ذوي القُربى أشدُّ مضاضةً على النفس من وقعِ الحُسام المُهنَّدِ يجب التفطُّن لصغارِ من ابتُلُوا بمرضٍ نفسيّ، أو تورَّطوا بمُؤثِّر عَقليّ؛ خصوصًا وأنَّ الطفلَ المُعنَّف والمُعذَّب حين تصدُفُه قد لا تسمَع منه تعبيرًا يكشِف ما أصابَه، وقد حفَرَت تلك الاعتداءاتُ في نفسِه أخاديدَها، وإنَّ الطفل المُعذَّب وإن عجِز لسانُ مقاله عن الشّكوى فإن لسان حاله سينطِقُ بالكثير، والصغيرُ لا يَنسى، وجراحُ الطفولَة لا تندمِل، وإن لم يتدارَكها الوُسَاة فيُوشِك أن تنتهي إلى مَقتَل. وإنها لظاهرةٌ حسنةٌ تلك المراكزُ والدُّور التي تُعنَى بحمايةِ الطفل وتوعيَة الآباء والأمهات، والقائمون عليها على خيرٍ عظيم، ينبَغي دعمُهم والتّواصُل مَعهم والإشادةُ بهم. عبادَ الله، وثمَّة صَفحَةٌ أخرى من كتابِ مآسي الطفل، عنوانها: الخلافات الزوجيّة؛ فعندما يحضر الشيطان بين زوجين، ويتقصَّدُ كلٌّ منهما الإساءةَ إلى الآخر، وعيونُ الأطفال تُشاهِد وتترقَّب، ونفوسُهم تتوجَّد وتنزِف، ويرَون إساءةً لفظيةً من الأبِ لأمّهم، أو إهانةً معنويّةً من الأمّ لأبيهم، أو اعتداءً جسَديًّا من أحدِهما على الآخر؛ فإنّ الطفولةَ حينئذٍ في هَباء، وثمَّةَ ساعتَها عُقدٌ نفسيّة تنمو في خفَاء، ويخبُو وهَجُ الحياةِ لدى الطّفل، وينسحِبُ ذلك على عدمِ مُبالاتِه بالتّعليم فلا يعنيه، ويُعتِم المستقبَل في ناظرَيْه؛ فلا حُلم يُداعبُه ولا أمل يُناغيه. شاهَت الأيام في عينيه، وساءَت معاني الأمومة والأُبُوَّة في ناظرَيْه، والوالدان غيرُ مُبالِيَيْن، يتنافسان أيهما الأسوأ، وأيهما الذي ينكأُ جُرح طفلهما فلا يبرأ. يا أيّها الأزواج المُتخاصِمون، إنَّ الله عزّ وجلّ حدَّد أوقاتًا لا يدخُل فيها الأولادُ على والديهم حتى لا تقَع أعيُنهم على ما لا يُدرِكون من المُباح؛ أفليس من باب أَوْلَى أن نُشيحَ بأبصار الصّغار ونصرِف علمَهم عن العلاقة السلبية بين والديهم؟! فيعيشوا في بيئةٍ نقية ونفسيةٍ رضيَّة. إنَّ الخلاف له آداب، والخصومة لها حدود، ولا ضحيّة هنا للتجاوُز إلا المتجاوِز نفسُه وأسرته ومستقبلهم جميعًا. أمّا بعدَ الطلاق والانفصال فتثور مسألةُ نفقَة الأطفال، وزيارتهم لأحدِ الوالدين، وكم في هذِه المسألة من صورٍ مِدادُها الأسَى وألوانها العناء؛ مع أنَّ الله تعالى يقول: لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ [البقرة: 233]. وكم طفلٍ غُيِّب عن أمّه ولا ذنبَ له إلا خلافٌ لم يكن طرفًا فيه، ولكنه عُوقِب به، والنبيّ يقول: ((من فرَّق بين والدةٍ وولدِها فرَّق الله بينه وبين أحبَّته يوم القيامة)) أخرجه أحمد وصحَّحه الحاكم. فبأيِّ ذنبٍ يُحرَم الطفلُ حنان أمّه أو لقاء أبيه وهو بَضعةٌ منهما، ولا غِنى له بأحدهما عن الآخر مهما فعل الأول؟! يجب أن يُمكَّن الطفل من رؤية والدَيْه، ومن الاتصالِ بهما متى أراد دون مُحاسَبةٍ أو مُضايَقة، ولا يجوز بحالٍ أن يكونَ الانفصالُ بين الوالِدَين داعيًا لأن يُربَّى الطفلُ على عقوقِ أحدهما أو عدَم الإحسان إلى الآخر. يا مَن وقعَ الطلاقُ بينهم من الآباء والأمهات، لا تنسَوا الفضلَ بينكم، واتَّقوا الله في أولادِكم، إنَّ خلافاتكم حبلٌ ممدود طرفاه بأيديكم، وفي وسطِه عقدةٌ مُلتفَّةٌ على عُنق الطّفل، فكلما اشتدَّ أحدُ الأبَوَيْن في الجذب استحكَمَت العُقدَة على عنقِ الطفل، مع أنَّ خلافات الأبوَين في الغالب يكون المغلوب فيها خيرًا من الغالب. كم مِن أبٍ يتحايلُ في تقليلِ نفَقة أولاده أو الهروب منها، لا لشيء إلا ليغيظَ أمَّهم؛ فكيف يرجو برَّ أولاده بعد ذلك ويتأمَّل دعاءهم وصدقتَهم عنه حين يكبرون؟! أيّها المسلمون، ومِن صوَر الإساءةِ المنتشرة الصياحُ والصراخُ في وجهِ الطفل، وتهديده وتخويفه، وكثرةُ مُعاتبته وتعنيفه، وهذا ممّا يتساهلُ فيه الآباء والأمهات والمُربُّون والمُربِّيات، ويتصرَّفون بمشاعِرِهم الغاضبة دون إدراكٍ للعواقب المُدمِّرة لنفسية الطفل. والتعنيفُ والتخويفُ يُورِث شَخصيّةً مهزوزة ونفسيةً مُضطربة. ألا فاتّقوا الله في وصيته: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ [النساء: 11]، وليتَّق الله كلٌّ في رعيَّته؛ فكلٌّ مسؤولٌ ومُحاسَب. اللّهمّ بارِك لنا في الكتابِ والسنّة، وانفعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. |