أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واعتصموا بحبله المتين وصراطه المستقيم، فذ لكم الفوز المبين، واعلموا عباد الله أن أقبح القبائح معصية الله تعالى، وشر المعاصي ما عظم ضرره وتحقق خطره، وكبائر الذنوب أعظم ما عُصي الله به. والكبائر حرب لله ولرسوله، والذنوب والآثام بعضها أشد من بعض في مفاسدها ومضارها وعقوباتها الدنيوية والأخروية بحسب مضادتها للغاية من خلق الكون، وبحسب مضادتها للحق والصلاح والإصلاح والخير العميم. وقد خلق الله تعالى الكون ليعبد الله وحده لا شريك له قال الله تعالى: وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضَ بِٱلْحَقّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الجاثية:12]. وقد أصلح الله الأرض ببعثة الرسل وإنزال الكتب، وكل ما يضاد هذه المعالي العظيمة فهو المكروه لله تعالى المبغوض للخالق الذي توعد الله عليه بأشد أنواع العقوبات المتنوعة في الدنيا والآخرة، ولهذا كان الشرك بالله تعالى في العبادة أكبر الكبائر، وعقوبته أشد العقوبات، فقد حرم الله على صاحبه الجنة وحكم بخلوده في النار قال الله تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48]. مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:74]. ولا يقبل الله في مشرك شفاعة الشافعين، وما ذلك إلا لعظم مفاسد الشرك بالله تعالى في النفس والكون، فهو ينعكس ضرره في النفس والكون، ثم تأتي الكبائر بعد الشرك بالله تعالى بحسب مفاسدها المدمّرة ومضارها في النفوس والكون والصلاح. والسحر من الذنوب العظام وكبائر الآثام، وهو كفر بالله تعالى وشرك برب العالمين، حرّمه الله في كل ملة، وحذر منه الرسول أشد التحذير، فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) [1]. والسحر يفسد أعمال الساحر و يبطلها لأنه يتضمن الشرك بالله تعالى فلا يكون الساحر ساحرًا إلا إذا تقرب إلى الشياطين بطاعتهم, بالذبح لهم أو السجود للجني أو الاستغاثة بالشياطين أو الاستعاذة بهم أو دعائهم من دون الله أو البول على المصحف أو أكل النجاسات والخبائث وفعل الفواحش والموبقات، فإذا أشرك بالله تعالى هذا الساحر وأطاع الشيطان خدمته الجن وأطاعته الشياطين وقضت له حوائجه في مقابل شركه بالله تعالى والإضرار بالبرءاء، والساحر دائماً يجمع بين صفة الكذب وخبث القلب والجرأة على الآثام. قال الله تعالى: هَلْ أُنَبِئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزّلُ عَلَى كُلْ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السّمْعَ وَأَكّثَرَهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء]. والسحر يفرق بين الأحبة, فيفرق بين الرجل وزوجته، وبين الولد وأبيه وأخيه وصديقه، ويؤثر في القلب بالحب والبغض, والسحر يتحكم في الإرادة ويضعفها، فيرى المسحور النافع ضارًا، والضار نافعاً، ويرى المنكر في بيته والانحراف في أهله فلا يقدر أن يغير ولا ينكر لما سُلب من إرادته، والسحر يمنع الرجل من إتيان زوجته, وقد يقتل السحر أو يُمرض أو يفسد العقل ويجلب الأوهام الباطلة والخيالات المدمرة والوساوس الرديئة، وقد يجلب الآفات المتنوعة، وكل ذ لك بإذن الله تعالى وإرادته، فإنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله تعالى. قال الله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ .[البقرة:102]. وينتشر عمل السحر بين النساء الشريرات الجاهلات اللاتي ينخدعن بالسحرة، فتعطي المرأة بعض السحرة جُعلاً ليسحر لها زوجها أو أحداً بقصد أن يحبها زوجها، أو يسحر لها من تكرهه طلبًا للانتقام وإلحاق الأضرار بالمسحورين. ويقع عمل السحر من بعض الرجال الأراذل الساقطين الفجرة فيعمل له السحرة سحراً لغرض خبيث يجره إلى نفسه أو لضرر يريد إلحاقه بغيره فتكون المصيبة بهذا السحر وتكون البلية بهذا الشرك فيشقى بهذا العمل الساحر نفسه والمسحور له؛ لأنهما قد اشتركا بالإثم العظيم ووقعا في الشرك برب العالمين, فإن الساحر أشر و أخبث من المشرك بالله عز وجل، لأن الساحر مشرك ولأنه خبيث في نفسه وذاته، وأما المسحور فإنه مظلوم قد بُغي عليه واعتدي عليه، والله تعالى ناصره على من ظلمه في الدنيا وفي الآخرة. روى الطبراني بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس منا من تطير أو تُطير له أو تكهن أو تُكهن له أو سحر أو سُحر له)) [2]. وروى النسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه)) [3]. والسحر في اللغة: ما خفي ولطف سببه. وهو في عرف الشرع: عزائم ورقى شرك وعقد تؤثر في القلوب والأبدان، فتمرض أو تقتل أو يتخيل المسحور بها أموراً لا حقيقة لها أو يُؤخَّذ أحد الزوجين عن صاحبه. وحكم تعلم السحر أو تعليمه: كفر بالله تعالى وشرك بالله وخروج من الإسلام. قال الله تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسّحْرَ [البقرة:102]. وقوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة:102]. وقوله تعالى: وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّـٰحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ [طه:69]. والسحر له حقيقة تضر المسحور بإذن الله تعالى كما هو قول أهل السنة، ولذلك أمر الله بالاستعاذة منه، ومنه ما هو تخمين. وحد الساحر والساحرة: القتل في الإسلام على الصحيح من قولي أهل العلم, وهو مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة. قال الإمام أحمد: "صح قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي " [4]، عن عمر أنه كتب: (أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال بجالة بن عبدة: فقتلنا ثلاث سواحر) [5]. وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها [6]. وصح عن جندب بن كعب الأزدي : أنه كان عند الوليد ساحر يلعب بسحره فاشتمل جندب على سيفه من الغد فضرب عنق الساحر وقال: إن كان صادقاً فليُحي نفسه، ثم قتله [7]. وقتل الساحر لحماية الناس من ضرره وشره وللوقاية من كثرة مفاسده ولاقتلاع جذور الشرك بالله تعالى من المجتمع المسلم وللحفاظ على صفاء عقائد المسلمين وعقولهم وأموالهم ودرء المفاسد عن المسلمين، والإسلام وحده هو الذي يرعى كل خير ويحارب كل شر. فقتل الساحر والساحرة هو الصحيح من قولي أهل العلم حتى وإن أظهر التوبة، لأن الصحابة لم يستتيبوا السحرة الذين قُتلوا، ولأن الغالب على الساحر الكذب فلا يصدق في توبته، فإن كان صادقاً في نيته وقصده نفعته التوبة عند الله عز جل ولكن لا تدفع عنه حد القتل لأنه مفسد شرير، خبيث السيرة والسريرة. واعجب أيها المسلم المعافى من أناس جهال التبس عليهم حال السحرة الكذابين والمشعوذين فتحيروا فيما يصدر من السحرة من خوارق العادات كالطيران في الهواء والمشي على الماء وقطع المسافة الطويلة في زمن قصير والإخبار عن الغيب فيقع الخبر كذلك، وشفاء المرضى فيظن هؤلاء الجهال أن هذا الساحر من أولياء الله وقد يؤول الأمر إلى أن يعبد من دون الله ويرجى منه النفع والضر والعياذ بالله، فظن بعض الناس أن خوارق العادات التي تجري من السحرة والعرافين كرامات من الله فالتبس عند الجهال حال أولياء الرحمن بحال أولياء الشيطان. والشرع فرق بين أولياء الله وأولياء الشيطان، فأولياء الله عز وجل هم الحافظون لحدود الله المتمسكون بشرعه ظاهراً وباطناً، الممتثلون لأوامر الله المجتنبون لنواهيه، المحافظون على صلاة الجماعة قال الله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62-63]. وليس من شرط الولاية لله تعالى أن يكون للولي كرامة بخرق العادات فإن أعظم الكرامة هي الاستقامة، وأما أولياء الشيطان فيظهر منهم خوارق عادات يظنها الجهال كرامات، وهي في الحقيقة أحوال شيطانية تخدمهم فيها الشياطين ليضلوا بها المفتونين, فلا تغتر بمن دخل النار وخرج سالماً أو طار في الهواء أو مشى على الماء أو أمسك بالثعابين، بل انظر إلى تمسكهم بالشرع تجدهم لا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا يسمعون القرآن بل يسمعون أغاني الزور ويغشون الفجور أُوْلَـئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَـٰنِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَـٰنِ هُمُ الخَـٰسِرُونَ [المجادلة:19]. واعتبر ذلك - أيها المسلم - بالدجال الأكبر الذي يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرض انبتي فتنبت، ويحيي الموتى بإذن الله، وهو أخطر خلق الله. وممن يدخل في ذم السحرة: الكهان والعرافون والمنجمون والذين يخطون في الرمل، وكل هؤلاء يدّعون علم الغيب، وهم كفرة خارجون عن الإسلام بادعائهم الغيب. قال الله تعالى: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وٱلأرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ [النمل:65]. ومن صدقهم في دعواهم فهو كافر بالله مشرك. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) [رواه أبو داود] [8]. ومما يدفع السحر: التوكل على الله ودعاؤه والتحصن بالقرآن الكريم وأنواع الذكر الثابتة وكمال التوحيد والحذر من الوقوع في شَرَك الأشرار والفجار ومجانبة المفسدين الظالمين. قال الله تعالى: يَـا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة:208]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري كتاب: الوصايا، باب: قول الله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً (2767)، ومسلم في: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها (89) بنحوه. [2] عزاه المنذري في الترغيب (4/17) إلى الطبراني ن وكذا الهيثمي في المجمع (5/117)، وقال المنذري: "بإسناد حسن"، وقال الهيثمي: "وفيه زمعة بن صالح وهو ضعيف"، وحسنه الألباني في غاية المرام (289). [3] سنن النسائي كتاب: تحريم الدم، باب: الحكم في السحرة (4079)، وكذا الطبراني في الأوسط (2/128-1469) كلاهما من طريق أبي داود الطيالسي عن عباد بن مسيرة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه، والحسن لم يسمع من أبي هريرة. انظر: العلل لأحمد (1/144)، والمراسيل لابن أبي حاتم (1/35)، وجامع التحصيل (1/115). وضعفه المنذري في الترغيب (3/51)، والألباني في غاية المرام (288) [4] انظر: تفسير ابن كثير (1/145). [5] أخرجه الشافعي في مسنده (1/383)، وابن أبي شيبة في المصنف (5/562). [6] أخرجه مالك في الموطأ في: العقول، باب: ما جاء في الغيلة والسحر (1624)، والشافعي في مسنده (1/383). [7] أخرجه البيهقي في السنن (8/136). [8] أخرجه أبو داود في الطب (3904)، وهو عند أحمد (9290، 9536)، والترمذي في الطهارة (135)، والنسائي في الكبرى (9017)، وابن ماجه في الطهارة (339)، والدارمي (1136)، وابن الجارود (107)، والحاكم (1/8)، وقال الترمذي: "وضعف محمد ـ يعني: البخاري ـ هذا الحديث من قبل إسناده"، ونقل المناوي في الفيض (6/24) تضعيف البغوي وابن سيد الناس والذهبي لهذا الحديث، ووافقهم على ذلك، وله شاهد من حديث جابر أخرجه البزار (9045- كشف الأستار)، وجوده المنذري في الترغيب (3/619)، وقال الهيثمي في المجمع (11715): "رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف". وصححه الألباني في غاية المرام (285). |