أما بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله حق تقواه وتوبوا إليه وأنيبوا، فإن التوبة من الذنوب منزلة عظيمة من منازل الدين مدح الله أهلها وأفاض عليهم بمنه وكرمه ورضاه، واعلموا أيها المؤمنون أن النقص في بني آدم وصف لازم فإن كل بني آدم خطاء ولا عصمة لهم من الخطأ، ولكن الخير كل الخير فيمن إذا أخطأ تاب وأناب واستغفر، وخير الخطائين التوابون. إن التوبة والإنابة مقام عظيم من مقامات النبوة ابتدأه آدم عليه السلام حين عصى ربه فتاب وأناب فتاب الله عليه، وتتابع الأنبياء والرسل من بعده وأتباعهم يتسابقون في التوبة والإنابة إلى ربهم كما حكى الله عن كثير منهم في كتابه بل وصفهم ومدحهم بالتوبة والإنابة حتى جاء إمامهم وخاتمهم نبينا محمد فرفع لواء التوبة ودعا إليها بقوله وفعله. عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله يقول: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) أخرجه البخاري. وعن الأغر بن يسار المزني قال: قال رسول الله : ((يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة)) مسلم. وقد تضافرت النصوص من القرآن والسنة بالدعوة إلى التوبة يقول الله عز وجل: وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون . وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً . وقال : ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)) مسلم. لقد فتح الله باب التوبة لكل عبد ووعد بقبولها ومن يعمل سوءاًً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً . بل قال في أصحاب الأخدود الذين قتلوا المؤمنين: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق قال الحسن البصري رحمه الله انظروا إلى هذا الجرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة، بل لقد حذر سبحانه من القنوط من رحمته فقال: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم . قال ابن عباس : (من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله). وما كل هذا الاعتناء بالتوبة إلا لما لها من الفضائل العظيمة فهي سبب للفلاح والسعادة في دار الدنيا والآخرة وهي كذلك سبب لتكفير السيئات بل ابدالها بحسنات قال تعالى: يا آيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار . وإذا أحسنت هذه التوبة بدل الله سيئاتك حسنات قال تعالى: إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً . قال ابن عباس ما: (ما رأيت النبي فرح بشيء فرحه بهذه الآية لما أنزلت وفرحه بنزول إنا فتحنا لك فتحاً مبينا ). والتوبة كذلك سبب للمتاع الحسن ونزول الأمطار وزيادة القوة والأموال والبنين قال تعالى حاكياً عن أنبيائه في مخاطبتهم لأقوامهم: وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً . ثم بعد هذا كله يفيض الله على عباده التائبين محبته وفرحه بتوبتهم إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين . أيها المؤمنون: ومع هذه المكانة العظيمة للتوبة إلا أن كثيراً من الناس يقع في أخطاء وفي باب تلاعب الشيطان وتغريره أو قد يكون ضعف الدين وقلة المبالاة بهذا الأمر العظيم. ومن هذه الأخطاء: 1) تأجيل التوبة فمن الناس من يعلم حرمة ما يقع فيه من المعاصي لكنه يؤجل ويسوف التوبة، ومن المعلوم أن المبادرة بالتوبة من الذنوب واجبة لا يجوز تأخيرها بل قد يخشى من تأخير التوبة أن تكون المعاصي راناً على قلبه فلا يقبل المعروف لأنه قد طبع عليه أو قد تعاجله المنية وهو مصر على الذنب لم يتب منه. قال : ((إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه فإذا تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها وإذا زاد زادت حتى يغلف قلبه فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون )) أخرجه الترمذي وصححه. 2) ترك التوبة مخافة الرجوع للذنوب مرة أخرى، وهذا كثير في الناس فإن منهم من يرغب في التوبة لكن لا يبادر إليها مخافة العودة إلى الذنب مرة أخرى، وهذا ناشئ عن فهم خاطئ من أن التوبة لا تقبل إذا عاد إلى الذنب مرة أخرى أو أن هذا تلاعب،ولاشك أن هذا خطأ،نعم من شروط التوبة العزم على عدم العودة إلى الذنب لكن لا يعني أن الشيطان لن يغريه بالذنب مرة أخرى، ولا يعني أنه إن خانته نفسه فعاد أن توبته الأولى كاذبة، بل على العبد أن يسارع إلى التوبة في كل ذنب، إذ إنه لا يمكن أن يعلم أنه سيعود مرة أخرى أم لا، فقد يعصمه الله من هذا الذنب بصدق توبته ثم أيضاً قد تأتيه منيته وهو تائب قبل أن يعود إلى الذنب مرة أخرى فيختم له بالسعادة، ثم على العبد أن يحسن الظن بربه فإن الله عند ظن عبده به وأن يستحضر أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه، فمهما عمل من معصية ثم تاب منها بحق ثم عاد فتاب ثم عاد فتاب فإن الله يتوب عليه، فرحمته سبحانه وسعت كل شيء. 3) ترك التوبة خوفاً من لمز الناس، فمن الناس من تحدثه نفسه بالتوبة ولزوم الاستقامة لكنه يخشى من لمز بعض الناس وبالأخص أصحابه في المعاصي فقد يتعرض من بعض السفهاء منهم للمز والوصف بالوسوسة والتشدد، فيحجم عن التوبة لأجل ذلك، ولا شك هذا خطأ فادح إذ كيف يقدم خوف الناس على خوف الله عز وجل وعقابه. ثم إن ما يلاقيه من استهزاء إنما هو ابتلاء وامتحان ليظهر الصادق من الكاذب ثم إن حسنت توبته واستمر على الاستقامة انقلب المستهزئ به مبجلاً له بل قد يقتدي به. 4) ترك التوبة مخافة سقوط المنزلة وذهاب الجاه والشهرة، فقد يكون لشخص ما منزلة وحظوة وجاه فلا تطاوعه نفسه على إفساد ذلك بالتوبة. ولا ريب أن ذلك نقص في الدين والمروءة والعقل إذ إن الشهرة والجاه عرض زائل ينتهي بنهاية الإنسان. ولن ينفعه إذا هو قدم على ربه إلا ما قدم من عمل صالح، وأما ما هو فيه من وظيفة محترمة أو تجارة قائمة على السحت أو معصية جعلت له مكانة عند السفهاء من الناس فهذا الغرور الزائل ومن نفخ الشيطان الذي يقوده إلى الهلاك. ثم إن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وأجل ما يعوض به العبد أن يأنس بالله وأن يرزقه محبة الله وطمأنينة القلب بذكره. 5) التمادي في الذنوب اعتماداً على سعة رحمة الله فإذا زجر العاصي قال: إن الله غفور رحيم على حد قول القائل: وكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم ولا ريب أن هذا سفه وجهل بدين الله، فرحمة الله قريب من المحسنين لا من المسيئين المفرطين المعاندين المصرين، وقد قرن الله مغفرته بأليم عقابه في أكثر من آية في كتابه قال تعالى: نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم وقال تعالى: إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم وما ذاك إلا ليستقيم العبد بين الخوف من الله والطمع في رحمته فلا يترك التوبة يأساً من رحمة الله ولا يتركها كذلك اغتراراً بسعة رحمته. تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجى درك الجنان بها وفوز العابد
ونسـيت أن اللـه أخـرج آدمـاً منها إلى الدنيا بذنب واحـد فحسن الظن بالله ورجاء رحمته ومغفرته إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة، وأما حسن الظن بالله مع انعقاد أسباب الهلاك والانغماس والإصرار على المعاصي فهذا غرور وجهل بالله ودينه. 6) الاغترار بإمهال الله للمسيئين، فمن الناس من يسرف في المعاصي، فإذا نصح وحذر من عاقبتها قال ما بالنا نرى أقواماً قد امتلأت فجاج الأرض بمفاسدهم ومعاصيهم وظلمهم وأكلهم أموال الناس بالباطل وأكل الربا ومع ذلك نراهم قد درت عليه الأرزاق وطالت أعمارهم وهم يعيشون في رغد من العيش، وهذا القول لا يصدر إلا من جاهل بسنن الله عز وجل لأن الله سبحانه يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، وهؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم فما هذا الذي هم فيه من النعيم في الدنيا إلا استدراج وإمهال من الله حتى إذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر. قال : ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ قوله تعالى: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد متفق عليه. وقال عليه الصلاة والسلام: ((إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد ما يحب من الدنيا على معاصيه فإنما هو استدراج)) ثم تلا قوله تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين . قال ابن الجوزي رحمه الله: "الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي فإن نارها تحت الرماد، وربما تأخرت العقوبة وربما جاءت مستعجلة،وقد تَبْغَتُ العقوبات وقد يؤخرها الحلم من الله، والعاقل من إذا فعل خطيئة بادرها بالتوبة فكم مغرور بإمهال العصاة لم يمهل". 7) الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي فهناك من الناس من إذا قيل له: لم لا تصلي؟ لم لا تتوب من المعصية؟ قال: إذا أراد الله ذلك أو يقول: مكتوب علي ذلك. وهذا خطأ وضلال وانحراف في إيمانه بالقدر حيث إن الإيمان بالقدر لا يمنح العاصي حجة في ترك الواجبات أو فعل المحرمات. ولو كان هذا مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال وانتهاك الأعراض ثم يحتج بالقدر ولا يناله العقاب. نعم قد كتب الله ما سيقع من ابن آدم من طاعة ومعصية وذلك لعلمه سبحانه الغيب لكن العبد ليس مجبراً على فعل المعصية أو الطاعة. وليسأل نفسه هذا الذي يحتج بالقدر أكنت تعلم أنه كتب عليك فعل المعصية قبل فعلها،وليسأل نفسه كذلك لو اعتدى أحد على مالك أو نفسك واحتج بالقدر أكنت ترضى له الاحتجاج بالقدر وسقوط العقوبة عنه؟ وبالجملة فالاحتجاج بالقدر إنما يكون عند المصائب لأنها من فعل الله لا حيلة للعبد في ردها وأما الذنوب والمعاصي فلا يجوز الاحتجاج بالقدر في فعلها لأن ذلك مخاصمة لله واحتجاج عليه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات. . |