أما بعد: فإنه لم يبق لنا في الإرشاد إلى هدي النبي في أمور الزواج إلا لقاءان، هذا أحدهما: نستكمل ما قد مضى من الكلام على ما ينبغي مراعاته في أمور الزواج، فنقول وبالله التوفيق يستحب أن يدعى لمن تزوج بما كان النبي يدعو به، فعن أبي هريرة أن النبي كان إذا رفأ إنساناً إذا تزوج، أي كان إذا دعى للمتزوج بالالتئام وجمع الشمل قال: ((بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينكما في خير)) [رواه أحمد وغيره وصححه الترمذي]. وعن عقيل بن أبي طالب أنه تزوج امرأة من بني جشم فقالوا: بالرفاء والبنين، وهذا ما كان يقال في الجاهلية فقال: لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا كما قال رسول الله : ((اللهم بارك لهم وبارك عليهم)) [رواه النسائي وابن ماجه وأحمد بمعناه]. وفي رواية له: ((لا تقولوا ذلك فإن النبي قد نهانا عن ذلك قولوا: بارك الله لها فيك وبارك لك فيها)) وإنما كره ما كان يقال في الجاهلية، لأنه ليس فيه حمد ولا ثناء على الله ولا ذكر له تبارك وتعالى، وخص البنين دون البنات فكرهه لذلك، واستبدل بهذا الدعاء الجامع الذي فيه خير كثير ((بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينكما في خير)). وأما عن الوليمة واستحبابها فلقد كان النبي يولم وأكثر ما يولم به النبي شاة وأولم بما دون ذلك، فليس لأكثر ما يولم به الزوج حد ولا لأقله كذلك، كما سيأتي عن القاضي عياض وقال النبي لعبد الرحمن بن عوف كما أخرجه البخاري وغيره: ((أولم ولو بشاة)). وعن أنس قال: ما أولم النبي على شيء من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة. وأما ما دون الشاة أيضاً فقد أولم به النبي كما رواه أنس في قصة زواج صفية رضي الله عنها وأخرجه الإمام أحمد ومسلم أن النبي : ((جعل وليمتها التمر والأقط أي اللبن المجفف والسمن)). ولهذا قال القاضي عياض رحمه الله: أجمعوا على أنه لا حدّّ لأكثر ما يولم به، وأما أقله فكذلك، وبما تيسر أجزأ. والمستحب أنها على قدر حال الزوج، ويجب على من دُعي أن يجيب خاصة إذا لم يخص بالدعوة الأغنياء دون الفقراء، وإذا لم تكن عند الداعي مناكر وما يتأذى به كما سيأتي في الشروط. يجب الإجابة على من دعي إذا لم يكن له عذر، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((شر الطعام طعام الوليمة تدعى لها الأغنياء وتترك الفقراء، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله)) [متفق عليه]. طعام الوليمة الذي يكون شراً الذي يدعى إليه الأغنياء ويترك الفقراء. ففي رواية أخرى لمسلم قال رسول الله : ((شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله)) يدعى إليها من يأباها قد لا تكون له رغبة في حضورها ويمنع منها من إذا دعي أجاب. وأما إن كان المدعو صائماً ففي حاله ما رواه أبو هريرة أيضاً، عن النبي وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود قال: ((إذا دُعي أحدكم فإن كان صائماً فليصل)) أي فليدع لصاحب الدعوة وإن كان مفطراً فليطعم. وشرط وجوب إجابة الدعوة ما يلي: أن يكون الداعي مكلفاً حراً رشيداً وأن لا يخص بالدعوة الأغنياء دون الفقراء، وأن لا يظهر قصد التودد لشخص لرغبة فيه أو رهبة منه، وأن يكون الداعي مسلماً- على الأصح- وأن يختص باليوم الأول، فقد تكون الوليمة أياماً، فعلى المشهور إن دُعي في اليوم الأول منها وجب عليه أن يجيب وإن دُعي في الأيام التالية لم يتوجب عليه الإجابة. وإن سبق داعٍ غيرَه وجبت إجابته دون الثاني لما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث حميد بن عبد الرحمن الحميري عن رجلٍ من أصحاب النبي أن النبي قال: ((إذا اجتمع الداعيان فأجب أقربهما باباً فإن أقربهما باباً أقربهما دياراً، فإذا سبق أحدهما فأجب الذي سبق)) إذا دعاك اثنان أجب أقربهما باباً فله حق الجوار، وإذا سبق أحدهما فأجب الذي سبق ولو كان المسبوق جاراً والسابق غير جارٍ. فإن استويا في القرب والبعد قال العلماء أقرع بينهما. وهذا الحديث أحد رجاله وهو أبو خالد بن زيد بن عبد الرحمن المعروف بالدالاني، وفيه مقال، ويشهد له ما أخرجه الإمام أحمد والبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت سألت النبي : ((إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال: إلى أقربهما منكِ باباً)) ويشهد للحديث الأول وينبغي أن لا يكون عند الداعي من يتأذى من حضوره من منكر أو غيره من الشروط. ولا ينبغي أن يلام المدعو في ذلك أو أن يقال له: سبقتنا بهذه المناكر لما تزوجت قبلنا وتنكر علينا، لا ينبغي أن يخاف اللوم، فمن هداه الله تعالى وبصره بالحق لا ينبغي أن يعير، وإن فُعل وعير بما كان يفعله سابقاً فلا عليه، لا عليه مطلقاً، وليس عليه أن يلتفت إلى ما يقال عنه إن كان هناك ما يتأذى بحضوره من منكر وغيره ليس له أن يحضر. فإن قدر على إزالة المنكر وجب أن يحضر فلعله أن يكون مهاباً محترماً موقراً يزال المنكر لأجله، فإن ساعد على تغير المنكر فليحضر، وإن لم يتغير المنكر فليرجع، وأما إن فُعل المنكر بحضرته بعد حضوره فليخرج إلا إن خشي على نفسه من ضرر محقق. ومن الشروط كذلك أن لا يكون له عذر، فإن كان معذوراً بسفر أو مرضٍ أو نحو ذلك فله أن يتخلف، وليس عليه حرج أن يتخلف. ثم كان من هدي النبي إذا زفت المرأة إلى زوجها كما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأخرجه ابن ماجه وأبو داود بمعناه أن النبي قال: ((إذا أفاد أحدكم امرأة أو خادماً أو دابة فليأخذ بناصيتها، وليقل: اللهم إني أسألك من خير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه)). وهذا دعاء جامع لأن الإنسان إذا لقي الخير من زوجته أو خادمه ودابته وجنب الشر من تلك الأمور كان من ذلك جلب النفع واندفاع الضر، وعلى المرأة أن تتجنب أن تتزين بأي من الأمور التي نهى عنها النبي في ليلة زفافها وفي غيرها، فعن أسماء رضي الله عنها قالت أتت النبي امرأة فقالت يا رسول الله إن لي ابنة عريساً يعني عروساً تصغير، وإنه أصابها حصبة فتمرق شعرها أي فسقط شعرها أفأصله؟ أي: أفاصل الشعر بشعر أجنبي، شعر إنسان آخر فقال رسول الله : ((لعن الله الواصلة والمستوصلة)) [متفق عليه]. وقد لعن النبي النامصة والمتنمصة وهي التي تزيل الشعر من وجهها ويستثنى منه ما إذا نبت لها لحية أو شارب، هذا يزال طبعا، وأما ما عدا ذلك فإن النبي لعن النامصة والمتنمصة، وهي التي تزيل الشعر من وجهها، ولعن الواشرة والمستوشرة وهي التي تشر أسنانها حتى تكون حادة صغيرة، وهي المتفلجة التي تجعل فرجاً بين الأسنان تتشبه بالفتاة الصغيرة لتبدو في أعين الناس صغيرة حسناء، هذه لعنها أيضاً النبي ، ولعن كذلك القاشرة والمقشورة وهي التي تزيل الطبقة العليا من جلد الوجه لتبدو الطبقة التي تحتها، ولعن الواشمة والمستوشمة وهي التي تدق الوشم في يدها أو معصمها أو غير ذلك، هذا كله يسير تجنبه، وفيما أباحه الشرع كفاية وسعة، فللمرأة أن تتزين بالحناء والخضاب والذهب والحرير وغير ذلك، أسأل الله العلي العظيم أن يأخذ بناصيتنا للحق أخذاً جميلاً. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. |