فإنه قد كانت لنا في ما مضى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتعلق بوصية النبي له وقفات، وأريد اليوم أن أتم ما بقي من الكلام على هذه الوصية العظيمة، وأحب قبل الشروع في ذلك أن أذكركم بنص هذا الحديث المبارك وبما انتهينا منه وما بقي فيه. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي يوماً فقال: ((يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك. وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح]. وفي رواية غير الترمذي: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك)). وفي رواية: ((قد جف القلم بما هو كائن، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)). فبقيت من هذا الحديث فقرتان: إحداهما متعلقة بالقدر، والأخرى متعلقةٌ بالصبر وفضله. أما الفقرة الأولى فهي قول النبي لابن عباس رضي الله عنهما: ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى عليك)). والمراد من هذه الكلمات المباركات ونحوها مما جاء في الروايات الأخرى، أن ما يصيب العبد في دنياه مما يضره أو ينفعه كله مقدر عليه، ولا يصيب العبد إلا ما كتب له من مقادير ذلك في الكتاب السابق، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعاً. يعني – لو اجتهد الناس جميعاً على أن ينفعوا العبد بشيء لم يقدر له ولم يكتب له في الكتاب السابق لم يكن أبداً، ولو اجتهد الخلق كلهم جميعاً على أن يضروا العبد بشيء لم يقدر عليه ولم يكتب في الكتاب السابق لم يكن أبداً دل على ذلك قوله تعالى في سورة التوبة: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا . وقوله تعالى في سورة الحديد: ما أصابكم من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها . وقوله تعالى في سورة آل عمران: قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . واعلموا رحمكم الله تعالى أن مدار جميع هذه الوصية على هذا الأصل، وما ذكر بعده وقبله فهو متفرع عليه وراجع إليه. فإن العبد إذا علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وإن اجتهد الخلق كلهم على خلاف المقدور فاجتهادهم هذا غير مفيد البتة. بل إنه لا يصيبه إلا ما كتبه الله له من خير وشر ونفع وضر، لو علم العبد ذلك وأيقن به، علم حينئذ أن الله هو الضار النافع المعطي المانع، فأوجب ذلك له توحيد الله عز وجل وإفراده بالطاعة وحفظ حدوده. ومن هنا قلنا نقلاً عن العلماء: إن مدار جميع هذه الوصية على هذا الأصل. وما ذكر قبله من الحفظ وما ذكر بعده من الصبر وغير ذلك فهو متفرع عليه وراجع إليه. فإن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار ولهذا ذم الله تعالى من يعبد ما لا ينفع ولا يضر ولا يغني عن عباده شيئاً. فمن يعلم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع غير الله عز وجل أوجب ذلك له إفراد ربه بالخوف والرجاء. هل تخاف غيره وترجو غيره؟ إذن ما علمت أنه هو وحده الذي ينفع ويضر ويُعطي ويمنع، إذا علمت ذلك أوجب ذلك إفراد ربك بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرع والدعاء وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعاً، وأوجب ذلك عليك اتقاء ما يسخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً. وأريد في هذه العجالة أن أشير إلى ما يجب على المسلم نحو أمر القضاء والقدر فإن هذا الأمر إذا حصل للعبد الإيمان به على الوجه المطلوب كان من أسباب سعادته، وإذا لم يؤمن بالقضاء والقدر عاش في الدنيا شقياً، وقد يكون في الآخرة كذلك إن لم يتداركه الله برحمته. فيجب على المسلم أن يعلم أن الإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان كما دل عليه حديث جبريل في صحيح مسلم عن عمر وعليه، فمن الإيمان ألا يتحسر العبد على ما أصابه من المصائب ظاناً أنه كان يمكنه أن يتلافاها، وأن لا يتحسر على ما أخطأه من الخير وفاته ظاناً أنه كان يمكنه تحصيله. لا، لا يجوز هذا، بل يعلم العبد أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، هذه أمورٌ مقدرة، إذن ماذا يجب نحوها؟ يجب الرضا والتسليم كما سيأتي في الكلام القادم إن شاء الله تعالى. وليعلم أن مذهب السلف جميعاً سلف الأمة رحمهم الله تعالى في مثل هذه الأقوال: الله خالق كل شيء ، الله رب كل شيء ومليكه. إن الإنسان خلق هلوعاً وإذا مسّه الشر جزوعاً إذا مسّه الخير منوعاً ونحو ذلك من الأقوال التي جاءت في الكتاب وفي السنة، مذهب السلف تجاه هذه الأقوال. أن العبد فاعل حقيقةً وأن له مشيئة وقدرةٌ لكن كل ذلك بمشيئة الله تعالى وقدرته، ولا تعارض، فقد أثبت الله تعالى في الكتاب العزيز، في القرآن، أثبت للعبد مشيئة ً وقدرة ً. وأخبر أن ذلك كله بمشيئته وقدرته. فقال سبحانه في سورة المدثر: فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله ، وقال في سورة الإنسان: فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً وما تشاءون إلا أن يشاء الله هكذا. للعبد مشيئةً وقدرة، وكل ذلك بمشيئة الله تعالى وقدرته. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة)). وفي صحيح مسلم أيضاً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رجلاً قال: يا رسول الله فيم العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما يستقبل؟ قال: ((لا. بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير)). قال: ففيم العمل؟ وهذا السؤال من المعلوم أنه يتردد كثيراً على ألسنة بعض الناس لا سيما العصاة، هم الذين يحتجون بذلك كثيراً ويقول قائلهم: ما فائدة العمل وأنا قد خلقت شقياً؟ والعياذ بالله تعالى. وما الدليل، على شقاوتك؟ يقول: الدليل انغماسي في هذه المعاصي، وارتكابي لها. وهذا في الحقيقة كما قال شيخ الإسلام وسأنقله عنه بعد قليل: ضلال وجهل، لأنها أمور مغيّبة عن العبد لا يعلم أهو مكتوب من السعداء أم من الأشقاء حتى يحتج بهذه الحجة الواهية. إذن قال الرجل للرسول مستفهماً مسترشداً، فيم العمل؟ إذا كان على ما جفت به الأقلام وجرت به المقادير وفرغ منه، ففيم العمل؟ قال: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)). وفي الصحيحين عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، أن رجلاً قال: يا رسول الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ يعني هل عرفوا وانتهي من ذلك، قال: أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال: ((نعم))، قال: لم يعمل العاملون؟ قال: ((كل يعمل لما خُلق له أو لما ييسر له)). وفي الصحيحين كذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان النبي في جنازة فأخذ شيئاً فجعل ينكت به الأرض فقال: ((ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة. قالوا يا رسول الله: أفلا تتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له)). أما من كان أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فسييسر لعمل أهل الشقاوة، والعياذ بالله – ثم قرأ : أما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى وانتهت قراءته في هذه الرواية إلى هاتين الآيتين. وأتم قراءة الآيات في رواية أخرى فقال: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى . والمعنى، فأما من أدى ما أمر به من العبادات المالية كالزكوات والصدقات ونحوها وما أمر به من العبادات البدنية كالصلاة والصوم ونحوهما، وما أمر به من العبادات البدنية المالية كالحج والعمرة ونحوهما، واتقى أي انتهى عما حرم الله عليه. واتقى ما يسخط ويغضب ربه عز وجل، وصدق بالحسنى أي صدّق بلا إله إلا الله وما دلت عليه من العقائد الدينية وما ترتب عليها من الجزاء فسنيسره لليسرى ، سييسر لكل خير، وسيعان على كل خير، وسيكون من الموفقين المؤيدين. وأما من بخل واستغنى ، أما من لم يؤد ما أمر به مما سبق بيانه واستغنى عن الله فلم يفتقر إليه وكذب بالحسنى ، كذب بالعقائد الدينية فنيسره للعسرى، سييسر لكل شر ويُخذل ولا يعان على خير. إذن، يتبين للمتأمل المتدبر الذي لا يستولي الشيطان على عقله ولا يُفسد عليه تفكيره وتأمله، يتبين له أن لا حجة عند الذين يتركون العمل وييأسون خوفاً من أن لا يكونوا في الآخرة من السعداء، ولا حجة للذين يجترئون على ارتكاب ما حرم الله ظناً منهم أنهم قد كتبوا من الأشقياء وفرغ من ذلك، ومن ثم تطلعوا إلى ألا يحرموا أنفسهم من شيء قبل أن يعذبوا وقبل أن يدخلوا النار. إذا تأمل العبد ما مضى من الآيات والأحاديث، علم أن لا حجة لأحد من المحتجين بالقدر. لا حجة لأحد من هؤلاء المحتجين بتلك الحجة الواهية، حُجة العاجزين والكُسالى والجرءاء والمخذولين. لا حجة لأحدهم في ذلك البتة. ومما يتعلق بالقضاء والقدر أيضاً: أن على العبد إذا أصابته المصائب أن يصبر، وإذا أصاب هو ذنباً أن يستغفر قال تعالى في سورة يوسف: إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين فإذا أصابته المصائب فليصبر وليحتسب، وإذا أصاب ذنباً فلا يقل: إني من الأشقياء. بل يستغفر إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين . فذكر هنا الصبر على المصائب، والتقوى بترك المعايب. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)) على العبد أن يكثر من قوله تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين وأن يتدبر هذا المعنى إذا ما قرأ هذه الآية سبع عشر مرةً في الفرائض، عليه أن يتأمل هذا المعنى العظيم. وأن يوقن به تمام اليقين فإنه إن لم يُعِنهُ ربه تبارك وتعالى فلا يكون ما يريده أبداً، وما دام العبد قد يفعل الذنوب أحياناً ويشعر أنه غير ميسر للخير فعلاجه أن يكثر من قول: إياك نعبد وإياك نستعين هي خلاصة الكتب كلها التي نُزلت على بني آدم كما قال بعض السلف: أنزل الله تعالى مائة كتاب وأربعة كتب جُمعت كلها وجمع خيرها في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن. ثم جمع خير ذلك كله في القرآن، ثم جمع خير ذلك كله في قوله تعالى في سورة الفاتحة في قوله: إياك نعبد وإياك نستعين . فعليه أن يصبر على المصائب، وإذا أصاب ذنباً أن يستغفر. قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي سبق بيان مصدره ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقولن: لو كان كذا كان كذا، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) فإن لو تفتح عمل الشيطان ولا تنفعك "لو" فلا يمكنك أن تستدرك ما فاتك وما أخطأك، ولا أن تدفع عن نفسك ما أصابك. هكذا إذن أمر العبد بالصبر عند المصائب والاستغفار عند المعايب، فعليه أن ينظر إلى القدر عند المصائب. ينظر إلى ما قُدّر عليه إذا أصابته مصيبة، فليعلم أن ذلك مكتوب ومُقدر، وبذلك لا يتحسر على ما مضى أبداً. وعليه إذا أصاب ذنباً أن يستغفر وينيب ويتوب ويرجع إلى الله تبارك وتعالى قال الله عز وجل في سورة الحديد: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها وقال في سورة التغابن: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله قال علقمة وغيره من السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويُسلّم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله وأجزل له المثوبة والعطاء -: ومن احتج بالقدر على المعاصي – أي على فعل المعاصي ويقول: قدر ذلك علي – فحجته داحضة، ومن اعتذر به فعذره غير مقبول. بل هؤلاء الضالون – كما قال فيهم بعض العلماء – أنت عند الطاعة قدري. وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. يعني رحمه الله تعالى أن هذا الذي يحتج بالقدر إذا عمل صالحاً قال بعملي وجهدي وهمتي، وإذا عمل مصيبة قال: قُدر ذلك علي. فلو أن هذا المحتج بالقدر ظلمه أحد من الناس فآذاه وضربه مثلاً ثم أراد أن يقاضيه ويحاسبه فقال له المؤذي: وماذا أفعل قُدّر ذلك علي. هل يقبل منه ذلك؟ لا، لا يقبل منه ذلك. تضربني وتؤذيني وتأخذ مالي وتقول: قُدر ذلك علي؟ لا. إذن فإذا لم يكن المقدر حجةً لغيرك على أن يظلمك، فليس القدر كذلك حجة لك على معصية الله عز وجل، فتنبه. ثم قال أيضاً رحمه الله تعالى: وإنما يحتج أحدهم بالقدر عند هواه ومعصية مولاه. لا عندما يؤذيه الناس ويظلمونه. هل إذا آذاه الناس قال: قُدر ذلك علي وعليهم؟ لا، بل ينتقم، ولكن عند هواه ومعصية مولاه. يقول: مُقدّر ذلك علي. وأما المؤمن فهو بالعكس من ذلك: إذا آذاه الناس نظر إلى القدر فصبر واحتسب، وإذا أذنب هو تاب واستغفر كما قال تعالى في سورة غافر: فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك فأمره بالصبر عند المصائب والاستغفار عند المعايب. وهكذا المؤمن يصبر إذا أصابته المصائب، ويستغفر إذا أصابته المعايب، والمنافق بعكس ذلك، فلا يستغفر من ذنبه بل يحتج بالقدر، ولا يصبر إذا ما أصابته المصائب، ولهذا يكون شقياً في الدنيا والآخرة، والمؤمن سعيداً في الدنيا والآخرة والله أعلم. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وأريد أن أختم هذا الكلام مع هذا الموضوع، بكلمة لابن عباس رضي الله عنهما يقول فيها: (القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وآمن بالقدر ثم توحيده، ومن وحّد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده). أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. |