أيها الإخوة: إن ما يقوم به بعض من المستشرقين ومن سار في ركابهم من تشويه تاريخنا والإساءة إلى بعض الشخصيات التاريخية من أسلافنا بقصد فصل هذه الأمة عن تراثها الحقيقي ومجدها الأصيل، وتحويلها إلى أمة تهتم بآثار تافهة مثل الأواني المنزلية أو آثارها جاهلية كافرة كآثار الفراعنة أو الآشوريين أو غيرها، حتى يتسنى لهم مسخ شباب أمة الإسلام، وتوجيههم إلى ما يشتهون، وإماتة روح الجهاد في أنفسهم، وإماتة عقيدة الولاء والبراء في قلوبهم. نسأل الله العافية. ومن هذه الشخصيات التي شُوهت، شخصية خليفة من الخلفاء، وملك من ملوك المسلمين، كان يحكم من الصين شرقاً إلى بلاد المغرب غرباً، وتولى الخلافة وهو عمره 22 عاماً، وقاد الجيوش في عهد والده وهو حدث صغير يناهز الحلم، وغزا الروم وانتصر عليهم، ثم عقد معهم هدنة على أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون. كل ذلك وهو شاب صغير – وربما كان - له بعض التجاوزات أثناء توليه الخلافة، حينما توسع في الأخذ من بيت مال المسلمين، ولكن له من الأعمال العظيمة ما سنذكرها في هذه الخطبة كما جاء في كتب السير. إنه هارون الرشيد. أيها الإخوة: ولد هارون الرشيد عام 148هـ وتولى الخلافة عام 170هـ وتوفى عام 193هـ أي أنه مكث في الخلافة 23 عاماً، وحينما توفي كان عمره 45 عاماً رحمه الله رحمة واسعة وغفر له. أيها الإخوة: لقد كان الرشيد أحسن الناس سيرة وأكثرهم غزواً وحجاً ... لقد كان يحج عاماً ويغزو ويجاهد عاماً آخر، ولقد كان رحمه الله ذا شجاعة ورأي وكان من أحسن الملوك وأنبلهم، كان إذا حج أخذ معه مائة من الفقهاء والعلماء وأبنائهم، وإذا لم يحج، أحج ثلاثمائة منهم بالنفقة السابغة والكسوة التامة عليهم. كان يتصدق بألف درهم كل يوم، وكان يروي الحديث بسند متصل إلى جده النبي صل الله عليه وسلم وكان يقول ذلك على المنبر إذا خطب يوم الجمعة ويحدث بهذا الحديث: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)). كان رحمه الله يجل العلماء ويجالسهم ويستمع منهم الحديث والموعظة. فيبكي حتى يبل الثرى بدموعه ... فقد دخل عليه يوماً أحد العلماء وكان ضريراً فوعظه – فبكى هارون ... فجاءه مرة ثانية في دعوة على الطعام، وبعد تناول الطعام. صب الخليفة الماء على يدي هذا العالم ليغسلها وقال له: أتدري من يصب عليك الماء؟ قال لا: قال: أمير المؤمنين ... قال: إنما أردت تعظيم العلم. لقد كان هارون عابداً، كان يصلي في اليوم مائة ركعة نافلة إلى أن مات. وكان يبغض أهل البدع ويبغض الجدال .. دخل رجل إلى هارون الرشيد وبين يديه رجل مضروب العنق، قد قطعت رأسه والسياف يمسح السيف من أثر الدم .. فقال الرشيد: إنه يقول بخلق القرآن. لاحظوا أيها الإخوة: أن الخليفة ذكر سبب قتل ذلك الرجل قبل أن يسأل .. ولاحظوا كيف أنه قتل الرجل لبدعته المكفرة، لأن كلام الله صفة من صفاته ليس بمخلوق فكم تحتاج الأمة لهذا السيف حتى يتخلصوا من أهل الأهواء والبدع الذين ينشرون البدع والمحدثات، وينشرون الإلحاد والشرك، متسترين بحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم كما يزعمون، وهم أبعد الناس عنه، ومتخذين من الفن والمسرح واجهة لنشر كفرهم وردتهم. ولا نسمع من يقيم عليهم حد الردة. أيها الإخوة: وكان هـارون الرشيــد رحمه الله يتقبل الموعظة والنصيحة من أي شخص كان، ويبكي عند سماعه لها، ومن هؤلاء رجل اسمه عبد الله بن عبد العزيز العمري حيث وعظ الرشيد يوماً فأطنب. قال له وهو واقف على الصفا بمكة: انظر كم حولها من الناس؟ مشيراً للكعبة فقال: كثير، فقال: كل منهم يسأل يوم القيامة عن خاصة نفسه، وأنت تسأل عنهم كلهم، فبكى الرشيد بكاءً كثيراً، وجعلوا يأتونه بالمناديل ينشف بها دموعه، ثم قال له: يا هارون إن الرجل ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن يسرف في أموال المسلمين كلهم؟ ثم تركه وانصرف والرشيد يبكي. إذاً كان ينكر عليه التوسع في بيت مال المسلمين، وهو يتقبل هذا الإنكار علناً أمام الناس ويشعر في نفسه بالذنب، فيبكي على خطيئته غفر الله له. لقد قال له شخص يدعى ابن السماك: يا أمير المؤمنين إنك تموت وحدك وتدخل القبر وحدك وتبعث منه وحدك، فاحذر المقام بين يدي الله والوقوف بين الجنة والنار، حين يؤخذ بالكظم، وتزل القدم، ويقع الندم. فجعل الرشيد يبكي بكاءً شديداً. لقد شيد الرشيد قصراً فخماً وزخرفه وأكثر فيه الطعام والشراب واللذات .. ثم استدعى أحد الشعراء فقال صف لنا ما نحن فيه من العيش والنعيم فقال الشاعر: عش ما بـدا لك سالماً في ظـل شاهقة القصــور تسعى إليك بما اشتهيت لدى الـرواح إلى البكــور فـإذا النفـوس تقعقعت عن ضيق حشرجة الصـدور فهناك تعلـــم موقناً ما كنت إلا في غــــرور فبكى الرشيد بكاءً كثيراً .. فقيل للشاعر: دعاك أمير المؤمنين تسره فأحزنته فقال الرشيد: دعه فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا عمى. أيها الإخوة: لقد طلب الخليفة هارون الرشيد يوماً من الطباخ أن يحضر له لحم جزور، فلم يحضر له، لأنه لم يذبح في هذا اليوم جزوراً أي جملاً – وبعد مدة من الزمن، طلب الخليفة لحم جزور، فأحضر له لحم جزور، فقيل له: أتدري كم كلفت هذه اللقمة من لحم الجزور؟ قال: أربعة دراهم، قيل بل أربعمائة ألف درهم. قال كيف ذلك؟ فقيل له: إنك طلبت قبل مدة لحم جزور، فلم نحضر لك طلبك، ومن يومها نحن نذبح كل يوم جزوراً، ولكنك ما طلبت اللحم إلا اليوم. لذلك فقد صرف منذ ذلك اليوم إلى هذا اليوم أربعمائة ألف درهم، فقام هارون الرشيد من فوق الطعام ولم يأكل منه وأخذ في البكاء وأخذ يتصدق على الفقراء وهو يبكي يومه ذلك كله، فدخل عليه أبو يوسف القاضي فقال: ما شأنك يا أمير المؤمنين باكياً في هذا اليوم؟ فذكر أمره وما صرف من المال الجزيل لأجل شهوته وإنما ناله منها لقمة، فقال أبو يوسف: هل كان ما تذبحونه يفسد أم يأكله الناس؟ قيل: بل كان يأكله الناس، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بثواب الصدقة، وبما أنفقته من أموال في سبيل الله، وبما رزقك الله في هذا اليوم من الخشية والخوف، وقد قال تعالى: ولمن خاف مقام ربه جنتان عندها هدأ الخليفة وطلب الطعام، فكان غذاؤه في هذا اليوم عشاء. أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. |