أيها الإخوة: كانت مكة وادياً غير ذي زرع ولم يكن بها سكان حتى أمر الله نبيه إبراهيم عليه السلام بأن يضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر ببطن الوادي الذي بني فيه بيت الله الحرام بعد ذلك. وهذه القصة معروفة ولا تخفى على الجميع، ثم جاءت قبيلة جرهم، وسكنت مكة حينما رأت الماء، فتزوج منهم إسماعيل وكثرت ذريته التي كانت على ملة التوحيد، الحنيفية السمحة. ولكن بعد مرور السنين، انتشرت البدع وانتشر الشرك في البلد الحرام، وارتكبت الآثام إلا من أفراد معدودين ممن رحمهم الله ممن بقي على التوحيد الخالص، وقليل ما هم، ولكنهم ما عرفوا كيف يعبدون الله وحده، ولا كيف كانت عبادة السابقين من الموحدين، لطول العهد، وقلة الحفظ، وكثرة الدعاة المضلين من المقيمين أو الوافدين. فعم الظلام وانتشر الجهل حتى أذن الله ببعثة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، ليعلم الناس الحكمة ويزكيهم، فدعا الناس إلى التوحيد، فآمن من آمن، وكفر من كفر، بالرغم من أن قريشاً كلها كانت تعرفه بالصدق والأمانة وكانوا يسمونه الأمين. أيها الإخوة: لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مباركاً منذ طفولته وحتى التحاقه بالرفيق الأعلى .. لقد ذكر أهل السير أنه حينما جاءت أمه حليمة .. فكعادة العرب آنذاك حيث يذهب النساء يبحثن عن أولاد الموسرين ليرضعوهم مقابل شيء من المال، وكان آباء الأطفال يرغبون في ذلك مما يساعد على حسن تربية أولادهم في البادية وحسن تغذيتهم، فحينما جاءت حليمة السعدية لإرضاع أبناء مكة، ما وجدت إلا هذا الصبي اليتيم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فترددت في أخذه، ولكنها أخذته حتى لا تعود إلى ديارها خاوية الوفاض. وقد كانت قليلة الدر، ومعها ناقة عجفاء وأتان لا تلحق بالركب، وكانت أرضها قليلة العشب، ولكن بعد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم در ثدييها، وإذا بالناقة حافل بالحليب، ونشطت أتانها وسبقت الركب، واخضرت الأرض ونبت الزرع، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وأما بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، فقد حدثت أمور متكررة في عدة مناسبات وهي ثابتة في كتب السنة تدل على بركته صلى الله عليه وسلم .. ألا وهي نبع الماء من بين أصابعه حتى شرب الناس وتوضؤوا منه وهم مئات. إحدى هذه الحوادث كانت يوم الحديبية كما رواها البخاري رحمه الله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: عطش الناس يوم الحديبية والنبي صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة فتوضأ، فجهش الناس نحوه فقال: ((ما بكم؟)) قالوا ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا. فسأل سائل: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمسة عشر مائة. وقد كان صلى الله عليه وسلم يلمس الطعام بيده ويدعو بالبركة، فيكفي هذا الطعام القليل مئات من الناس. ومسح النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة ضرع الشاة المجهدة وسمى الله فدر الحليب. وغير ذلك من الأمور الثابتة التي لا يسع الوقت لذكرها. ومن الآيات الباهرات .. أنه صلى الله عليه وسلم أمر الشجرة بالحضور فامتثلت وحضرت بين يديه، ثم أمرها بالرجوع إلى مكانها فرجعت، كما جاء في سنن ابن ماجه عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: جاء جبريل عليه السلام ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزين قـد خضب بالدماء، قد ضربه أهل مكة. فقال: مالك؟ فقال: فعل بي هؤلاء وفعلوا، قال: أتحب أن أريك آية؟ قال: نعم أرني، فنظر إلى شجرة من وراء الوادي. قال: ادع تلك الشجرة، فدعاها فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، قال: قل لها فلترجع، فقال لها: فرجعت حتى عادت إلى مكــانها. فقال رسـول صلى الله عليه وسلم: ((حسبي)) وقاد شجرة بغصن من أغصانها فانقادت معه كما يقاد البعير. وفي بداية الدعوة المكية طلبت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم آية تدل على صدق دعوته، فأراهم القمر ليلة كان بدراً نصفين .. انفلق القمر نصفين فوق الجبل فقال: اشهدوا .. فقالوا: سحرنا محمد .. فبدلاً من أن يؤمنوا .. ازدادوا كفراً والعياذ بالله. بينما الوحش الكاسر والشجر والحجر الأصم آمنوا به صلى الله عليه وسلم حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حجر بمكة كان يسلم عليه .. فيقول: السلام عليك يا رسول الله. وكذلك قصة الذئب الذي آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر بذلك الراعي، فلنستمع أيها الإخوة إلى هذه القصة التي رواها الإمام أحمد والبغوي في شرح السنة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما راع يرعى بالحرة إذ عرض ذئب لشاة من شياهه، فجاء الراعي يسعى فانتزعها منه فقال الذئب للراعي: ألا تتقي الله تحول بيني وبين رزق ساقــه إلي: قــال الــراعي: العجب لذئب يتكلم، والذئب مقعٍ على ذئبِه يكلمني بكلام الإنس، فقال الذئب للـراعي: ألا أحدثك بأعجب من هذا؟ هـذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحرتين يحدث الناس بأنباء ما قد سبق، فساق الراعي شياهه إلى المدينــة فزواها في زاوية من زواياها ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لـه ما قـاله الذئب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للراعي: ((فأخبر الناس ما قالـه الذئب)) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدق الراعي ألا إن من أشراط الساعة كلام السباع الإنس، والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، يكلم الرجلَ نعلُه وعذبةُ سوطه ويخبره فخذه بحدث أهله بعده)). من هذه القصة وغيرها يتضح إيمان كل المخلوقات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا عاصي الجن والإنس، بل لقد اشتكى الحيوان والطير إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في قصة الحمامة التي فجعت بفراخها، وهي معروفة للجميع .. ولكن عاصي الجن والإنس هم الذين فسقوا ولم يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم، نعوذ بالله من الضلال. لا نستطيع أن نسرد كل المعجزات والآيات الباهرات في هذه العجالة، ولكن بالرجوع إلى كتب السير الموثوقة، وإلى كتب السنة، وإلى تفسير القرآن العظيم، يطلع المسلمون على هذه الآيات التي يحار العقل عندها، ويتعجب من تلك العقول التي جحدتها وكفرت بها. وإن أعظم آية وهي المعجزة الباقيـة الخالدة إلى أن يشاء الله حيث أن كل معجزة أو آية من الآيات السابقـة الذكـر وغيرها مما لم يذكر، قد انتهت في وقتها، وقد شاهدها من حضرها في وقتها .. إلا هذه الآية الباهرة ألا وهي القرآن العظيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيــات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الـذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجــو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)). هذا القرآن العظيم الذي تحدى الله به فصحاء العرب أن يأتوا بمثله قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القـرآن لا يأتون بمثله ولو كـان بعضهـم لبعض ظهيراً بل بلغ التحدي أن يأتوا بسورة من مثله، كما قال تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين . أيها الإخوة: بنظرة شاملة على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نجد الآيات الباهرات في حياته وفي معاملاته، نجده آية من آيات الله في أسلوب دعوته وفي جهاده، في عبادته وفي كافة سلوكياته، سواء مع زوجاته أو مع أصحابه رضي الله عن الجميع، حتى في تعامله مع أعدائه وأسراه، ومع خدمه وأصهاره. لقد وصفه الله بأنه على خلق عظيم، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته صلاة دائمة وسلم تسليماً كثيراً، فهذا النبي الأمي محمد وأحمد كما أخبر عن نفسه صلى الله عليه وسلم فقال: ((أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب، الذي ليس بعده نبي، أنا نبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملاحم..)). لقد وصفه الصحابة رضي الله عنهم بقولهم: كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير أزهر اللون كأنّ عرقه اللؤلؤ وكان شعره دون الجُمة وفوق الوفرة - الجمة الذي يصل إلى الكتفين والوفرة الذي عند شحمة الأذنين-، كان كثير شعر اللحية، وكان وجهه مستديراً مثل الشمس والقمر، وكان كلامه فصلاً يفهمه كل من سمعه. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. |