سنتحدث هذا اليوم عن أمر عظيم، عن ذنب كبير وشر مستطير، سنتحدث عن مفرق الجماعات، وهادم الأسر، فكم من أسرة فرق شملها، وكم من صحيح أعل صحته، وكم من سعيد سلب الفرحة من قلبه، وكم من شفة أزال البسمة عنها، إنه كهف مظلم بظلام آثاره، ومستنقع قذر بقذارة أهله، إنه دهليز مرعب ممتلئ بكل أصناف الرعب، إنه شيء مهول. أتدرون عما نتحدث؟ وماذا نقصد؟ إنه السحر. تلك العزائم والرقى، والعقد التي تؤثر في الأبدان والقلوب، فيُمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن الآخر، وحسبنا الله ونعم الوكيل. أيها المسلمون: إن السحر عالم عجيب، ظاهره فاتن خلاب، وباطنه قذر عفن، لقد عبّد الشيطان السحر والسحرة وأتباعهم للشمس والقمر، والنجوم والأوثان، بل ترقّى به الحال إلى أن تعبّدهم لنفسه الخبيثة، لقد كان السحر ولا يزال منزلقاً لم يجن البشر من ورائه إلا ثمرات مرة، إنه صورة مشوهة، وأيد ملطخة بدماء الأبرياء، لقد سلب الفرحة من قلوب كثير من الناس، وأزال البسمة عن شفاههم، إنه تاريخ مظلم بظلام آثاره، وضلال أتباعه. لقد أعاب الله تبارك وتعالى على فريق من الذين أوتوا الكتاب أنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، وتركوا ما فيه، واتجهوا إلى ما يضاده، ألا وهو السحر، قال تعالى: ٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [البقرة:102]. لقد انتشر السحر في طول الدنيا وعرضها، لم يدع أمة من الأمم إلا كان فيها، واستخدم لتعبيد الناس لغير رب العالمين، بل لقد كان أداة فاعلة في حرب الرسل والرسالات، وتهمة جاهزة تلصق بكل نبي يدعو إلى عبادة الله ونبذ الشرك. وفي زماننا هذا انتشر السحر والسحرة وتوجه لهم أهل الفسق وبغاة الباطل طلباً للشفاء من دون الله، أو سعياً لتفريق شمل أسرة، أو لهثاً للانتقام من مخالف، وهم بذلك باعوا دينهم بدنياهم، باعوا رضوان الله بسخطه. أيها المسلمون: إن السحرة جنس من البشر وقعوا في سخط الله وغضبه وأوقعوا كل من يأتيهم لقضاء حاجته في نفس ذلك المصير؛ إذ أن السحرة عندما يسحرون ويقومون بأعمالهم الخبيثة فإنه لابد لهم من طريقة معينة يسلكونها، ونظام ثابت يتبعونه ليبلغ درجة الكفر بالله، فهم يدهسون المصحف في أقدامهم ويدخلون به الخلاء، أو يكتبون آيات الله بالقذارة أو بدم الحيض، ويذبحون لغير الله، ومنهم من يأتي أمه أو ابنته، ومنهم من يسجد للكواكب، إن هذه الفعال الكفرية التي يفعلها الساحر هي دليل صدقه في التعلم، وعنوان صداقته لإبليس لعنه الله. ولذلك كان السحر من المهلكات، في الحديث المتفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ)). ولما كان الساحر أشد كفراً كان الشيطان أكثر طاعة وأسرع في تنفيذ أمره، لقد خرج هذا الساحر إلى حيث أراد إبليس، خرج إلى حيث غضب الله وسخطه، ولذلك من يعمل هذه الأعمال استحق أن يوصف بأنه كافر، وقد اتفق الأئمة العلماء على ذلك واستدلوا بقول الله تعالى: وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [البقرة:102]. وعند النسائي من رواية أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَك،َ وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ)). وحد الساحر القتل، لأنه من أهل السعي في الأرض بالفساد، لتعلمه السحر، واستدعائه الناس إليه، وإفساده إياهم، مع ما صار إليه من الكفر عند الترمذي من حديث جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ)). وللأسف إن السحرة قد لبّسوا على ضعاف العقل والبصيرة من الناس بتلبسهم لباس الطاعة في الظاهر حتى أن بعضهم تلقب بالشيخ، نعم إنه شيخ ضلالة، وربما تجده يصلي بالناس أحياناً ليلبِّس على الناس، وربما ادعى إنه يصوم النوافل فيُخدع به المغفلون. أيها المسلمون: أن هذه البضاعة منتشرة مشهورة في بلاد المسلمين، وأصبح روادها كثر، دون خوف من الله، أو علم بأن لقيا المسحور المغلوب على أمره ستكون مع من سعى في سحره في يوم العدل، يوم القيامة فيشكو إلى الله ما وقع عليه من ضرر بسبب هذا الساحر وذلك الذي سعى عنده لإضرار المسحور. نعم، هذا هو حال الذين يذهبون إلى هناك، نعم هناك حيث يُطفأ نور الإيمان، حيث المعصية، لقد اشتعلت قلوب بعضهم بفتيل الحسد، فسهروا الليل وكابدوا النهار، فساروا بخطوات سريعة، دون إحساس بمبلغ الجرم الذي يسعون فيه، وبدون مبالاة بأن هذا الطريق إيذاء للمسلم، فيدخل أحدهم على الساحر ويتحدث معه بحديث الغدر والخيانة، ثم ما يلبث أن يسمع كلمات الطمأنينة من هذا الساحر المفسد بأن كل شيء سوف يسير لما يخططون. يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلاَّ غُرُوراً [النساء:120]. ثم ما هو إلا وقت يسير حتى يشعر ذلك المسكين المبتلى بأن نفسه ليست تلك الأولى، وأن حياته قد طرأ عليها ما غير مسارها إلى حيث لا يريد. قال الفضيل بن عياض: والله ما يحل لك أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق فكيف تؤذي مسلماً. كم أثرت تلك الصفقات المعقودة في جنح الظلام على حياة أسر، فكم من نساء قد طلقن، ومن أطفال قد شردوا، وكم من أبرياء قد ماتوا، وكم من تجارة قد كسدت، وصحة قد ذبلت، فلا حول ولا قوة إلا بالله. ألا وإن من السحر العلم بالنجوم وتأثيراتها النفسية، والتنبؤ عن طريقها بالمستقبل وما جرى وما سيجري، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ)). ومن ذلك تعلق قلوب الكثير من الناس بالتنجيم والأبراج التي تكاد لا تخلو منها مجلة أو صحيفة. عباد الله: لقد ابتلي بعض الناس في أيامنا هذه بضعف الإيمان، والركون إلى الشيطان ووساوسه واتباعه، حتى أصبح الفرد يبحث عن ضالته ومبتغاه وإن كان فيها سخط الله وعذابه غير آبه بجنة أو نار. فمن الناس من إذا ابتلي بمرض لفترة طويلة ولم يجد معه العلاج أصيب باليأس والقنوط، الذي يفتح للشيطان عليه باباً يزين له من خلاله الذهاب إلى السحرة عله أن يعرف دواء لعلته تلك، ونسي قول رسولنا الذي عند مسلم: ((عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِن، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَه)). نسي أن الله سبحانه لم يجعل شفاء فيما حرم، عند أبي داود والحديث صححه الألباني، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ النُّشْرَةِ فَقَالَ: ((هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)). َقَالَ الْحَسَن: النُّشْرَة مِنْ السِّحْر. قال في فَتْح الْوَدُود: لَعَلَّهُ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى أَسْمَاء الشَّيَاطِين أَوْ كَانَ بِلِسَانٍ غَيْر مَعْلُوم، فَلِذَلِكَ جَاءَ إنه سِحْر، سُمِّيَ نُشْرَة لِانْتِشَارِ الدَّاء وَانْكِشَاف الْبَلَاء بِه. ((هُوَ مِنْ عَمَل الشَّيْطَان)): أَيْ مِنْ النَّوْع الَّذِي كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة يُعَالِجُونَ بِهِ وَيَعْتَقِدُونَ فِيهِ, وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ الْآيَات الْقُرْآنِيَّة وَالْأَسْمَاء وَالصِّفَات الرَّبَّانِيَّة وَالدَّعَوَات الْمَأْثُورَة النَّبَوِيَّة فَلَا بَأْس بِهِ . ومن النساء من تذهب إلى الساحر أو الساحرة بزعم أنها لا تريد زوجها أن يتزوج عليها، وإن تزوج فلعله يميل إليها ويطلق الثانية . وهي بذلك ضاربة عرض الحائط بسخط الله، وهي بذلك أو أهلها الذين سعوا معها قد اشتروا الفلس والخسران وباعوا الغفران أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [البقرة:16]. أولم تعلم هذه الفئة من الناس أنها قد أتت فعلاً شنيعاً، روى الإمام مسلم في صحيحه، قال: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً))، وهذا الوعيد عن سؤاله فقط، أما من يسألهم ويصدقهم فقد قال : ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)). وفي الحديث الذي حسنه الألباني: ((لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مؤمن بسحر، ولا قاطع رحم)). ألا وإن من العلامات التي يعرف به الساحر، الذي يكون الذهاب إليه حراماً وتصديقه كفراً ما يلي: تجده يسأل المريض عن اسمه واسم أمه، أو يأخذ أثراً من آثار المريض، أو يطلب حيواناً بصفات معينة ليذبحه ولا يذكر اسم الله عليه، وربما لطخ بدمه أماكن الألم من المريض، أو يكتب الطلاسم التي لا يعرف من أحد قراءتها أو تلاوة العزائم والطلاسم، ويأمر المريض أن يعتزل الناس فترة معينة في غرفة لا تدخلها الشمس، وربما طلب من المريض أن لا يمس الماء مدة معينة، وقد يعطيه أوراقاً يحرقها ويتبخر بها، وقد يخبر المريض باسمه واسم بلده ومشكلته التي جاء من أجلها. أيها المسلمون: من ابتلي بشيء من السحر فليَتَعَزَّ بالنبي ، عند البخاري عن عائشة قالت: سُحِرَ النَّبِيُّ حَتَّى إنه لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ إنه يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدِي دَعَا اللَّهَ وَدَعَاهُ ثُمَّ قَالَ: ((أَشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَال: جَاءَنِي رَجُلَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَال: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيُّ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ قَالَ: فِي مَاذَا؟ قَال: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَر.ٍ قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَال:َ فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ، قَالَ: فَذَهَبَ النَّبِيُّ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْبِئْر، فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا نَخْل، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاء، وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأَخْرَجْتَه؟ قَالَ: لَا أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِيَ اللَّهُ وَشَفَانِي وَخَشِيتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرًّا وَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ)). هذا ورسول الأمة قد أصيب بالسحر فكيف بمن دونه. |