أما بعد: أحبابنا في الله: لقد ذكرنا في الجمعة السابقة بعض العلامات الدالة على محبة رسول الله ، واليوم نكمل ما بدأناه في تلك الجمعة. فمن علامات محبة رسول الله كثرة تذكره، والشوق إلى لقائه، ذلك أن من أحب شيئاً أكثر من تذكره، ولا يكون ذلك إلا إذا شغلت المحبة قلب المحب وفكره، ويتبع ذلك تمني رؤيته ، والشوق إلى لقائه، وسؤال الله اللحاق به على الإيمان، وأن يجمع الله بينه وبين حبيبه في الجنة. وقد أخبر بأنه سيوجد في هذه الأمة أناس يودون رؤيته بكل ما يملكون، أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله))، فاللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين. ويدخل في هذا الشوق إلى لقائه إذ كل حبيب يحب لقاء حبيبه، وحينما قدم الأشعريون المدينة كانوا يرتجزون: غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه ولما احتضر بلال نادت امرأته: واويلاه! فأجابها، وهو يقول: وافرحاه! غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه. وكان خالد بن معدان الكلاعي – وهو من التابعين – لا يأوي إلى فراشه إلا وهو يذكر شوقه إلى رسول الله ، وإلى الصحابة الكرام، ويقول: هم أصلي وفصلي، وإليهم يحن قلبي، طال شوقي إليهم، فعجل ربي قبضي إليك، حتى يغلبه النوم. وهكذا شأن المحب دائماً يشتاق إلى لقاء حبيبه، ويتمنى رؤيته بكل ما يستطيع، فأين شوق المسلمين اليوم إلى نبيهم وحبيبهم أين هو؟ لقد غاب عنا إلا من رحم ربك، لقد شغلنا بالتنافس في حطام الدنيا حتى قل تذكرنا لرسول الله ، فاللهم أيقظنا من رقدتنا، وارزقنا الشوق إلى لقائك ولقاء حبيبك من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة. ومن علامات محبته الاستعداد التام لبذل النفس والمال دونه ، فمن المسلم به أن كل محب صادق يترقب باشتياق الفرصة التي يبذل فيها نفسه، وكل ما يملك دون حبيبه، والمحبون الصادقون للنبي كانوا دائماً على أتم الاستعداد لفدائه بكل غال ونفيس، والذين كانوا من بعد عصره كانوا يجدون حسرة في قلوبهم لفوات هذه الفرصة العظيمة، والمتتبع لسيرة النبي مع أصحابه يجد فيهم محبة منقطعة النظير، وفداء بالنفس والمال. فهذا أبو بكر الصديق رضي لله عنه الذي بذل ماله كله في سبيل الله، تراه يضرب لنا أروع الأمثلة لحب النبي وفدائه له بنفسه، لقد ضحى بنفسه، وعرضها للهلاك والموت ليلة الهجرة إلى المدينة ليفدي بذلك رسول الله لمحبته له، وكان رضي الله عنه يعلل هذه التضحية بقوله: (إن قُتلتُ فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلتَ أنت هلكت الأمة). وفي الطريق إلى الغار كان الصديق يمشي أمام النبي ساعة، ويمشي خلفه ساعة، فسأله عن السبب فقال: أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأذكر الرصد فأمشي أمامك، فقال النبي : ((لو كان شيء أأحببت أن تقتل دوني))؟ قال: أي والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار قال: مكانك يا رسول الله، حتى استبرئ لك الغار، فاستبرأه. وفي هذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يبكي: وددت أن عملي كله مثل عمله يوماً واحداً من أيامه وليلة واحدة من لياليه، أما الليلة فالليلة التي سار مع النبي إلى الغار. فلما انتهيا إليه قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فمسحه فوجد في جانبه ثقباً فشق إزاره، وسدها به، وبقي اثنان فألقمهما رجله، ثم قال لرسول الله ادخل، فدخل النبي ، ووضع رأسه في حجره، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه النبي ، فسقطت دموعه على وجه النبي ، فقال: ((ما لك يا أبا بكر؟)) قال: لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل عليه النبي ، فذهبت ما يجده. هل بالله عرف التاريخ مثل هذه التضحية، ومثل هذه المحبة؟ الله أكبر، إنه حب فريد، حب الصديق لرسول الله ، إنه حب ينبع من إيمان عميق، وإخلاص شديد، فانظروا – رحمكم الله – إلى مثل هذه النماذج العظيمة لصحابة النبي . فهذا زيد بن الدثنة رضي الله عنه يخرجه أهل مكة من الحرم كي يقتلوه فيجتمعون حوله، فيقول له أبو سفيان: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال زيد: والله لا أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي. هكذا كانت المحبة الصادقة في قلوب أصحابه رضوان الله عليهم مما جعل أعدى أعداء الإسلام يقولون: ما رأيت في الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً. إخوة الإسلام: هل نحن المدعون لمحبته ، هكذا؟ فيم نفكر نحن؟ ماذا يشغل بالنا؟ هل نحن مستعدون لبذل أرواحنا وأموالنا دفاعاً عن عقيدتنا ونشر ديننا وتحرير مقدساتنا؟ وهل نحن نناصر إخواننا الذين تراق دماؤهم، وتسلب أموالهم لا لشيء إلا لأنهم قالوا ربنا الله؟ هل نبذل المال لهم، نرفع عنهم الظلم، ونخفف عنهم الحرمان والظلم؟ هل دعونا لهم؟ اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه. ومن علامات محبته محبة قرابته وأهل بيته وأزواجه وصحابته، ويتمثل هذا في توقيرهم، ومعرفة فضلهم، وحفظ مكانتهم، أذكركم الله في أهل بيته، وحب أصحابه، ومعرفة فضلهم وقدرهم، والثناء عليهم بما هم أهله، فهم خير هذه الأمة بعد نبيها، ويكفي أنهم فازوا بشرف صحبة النبي ، وأن الله قد خصهم بهذا الشرف دون غيرهم من العالمين، وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلأْوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَـٰجِرِينَ وَٱلأنْصَـٰرِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ [التوبة:100]. فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا حقوق بكم، فأدوها وحقوق نبيكم ، فاحفظوها، وبادروا إلى ما فيه مرضاة ربكم، اللهم اسلك بنا طريقك المستقيم، اللهم وفقنا لما وفقت له عبادك الصالحين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. |