أما بعد: فإنه كما هو معلوم أن هذا الدين دين عظيم قد جاء يحكم الإنسان في حياته كلها وفي جميع شؤونه الخاصة والعامة. في منزله وفي عمله وفي مسجده وفي شارعه. وهذا ما يجب علينا أن نفهمه جميعاً ونعيه تماماً حتى نسير على هدي الله ومنهجه القويم، قال تعالى: وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153]. ومن القضايا التي هي بحاجة إلى بحث وتعلم وتطبيق في أيامنا هذه خاصة، قضية الحلف ـ أعني اليمين ـ وما يتعلق بها من أحكام كثيرة قد حصل فيها العديد من الأخطاء من بعض المسلمين هداهم الله سواء كان الخطأ عن قصد كمن يحلف بالله وهو كاذب أو عن غير قصد كمن يحلف بغير الله وهو جاهل لا يعلم بحكم ذلك الفعل. فعلى كل حال نحن بحاجة إلى الحديث عن هذه القضية وبيان ما يكتنفها ويحيط بها من أحكام وتبعات. حتى يكون المؤمن على بصيرة من دينه في هذه القضية، فيعمل على علم، ويعلم أهله وجيرانه وكل من رأى عنده خطأ في شيء من ذلك. فنقول مستعينين بالله مستمدين منه التوفيق والسداد سائلين إياه جل وعلا أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه وأن يتقبلها منا إنه سميع مجيب. أولاً: قال ابن حجر: الأيمان ـ بفتح الهمزـ جمع يمين، وأصل اليمين في اللغة اليد، وأطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل واحد بيمين صاحبه، وقيل: لأن اليد اليمنى من شأنها حفظ الشيء، فسمي الحلف بذلك. لحفظ المحلوف عليه وسمي المحلوف عليه يميناً لتلبسه بها. ثانياً: اعلم رحمني الله وإياك أن اليمين إما أن تكون على شيء ماض قد حدث وانتهى. أو أن تكون على شيء مستقبل لم يحصل بعد. أما اليمين التي تكون على شيء ماض قد حدث مثل أن يقول: والله لقد رأيت فلاناً. وهذه اليمين ليس فيها كفارة إطلاقاً سواء كانت صدقاً أو كذباً. لكن إن كان صادقاً أو ظاناً صدق نفسه فلا إثم عليه. وإن كان كاذباً أو ظاناً كذب نفسه فعليه إثم. وهذا عباد الله ـ أعني الحلف الكاذب ـ يحدث كثيراً في هذه الأيام من بعض الناس هداهم الله يحلفون بالله كذباً وهم يعلمون، لأجل مصلحة دنيوية يحصلونها أو دفع ضرر محتمل عن أنفسهم إن هم صدقوا. تأمل مثلاً في شريحة من شرائح المجتمع وهم الباعة أهل التجارة والأسواق. فكم من مرة تدخل متجراً لتشتري منه سلعة فيحلف لك بالله أيماناً مغلظة أنها عليه بألف ريال مثلاً ثم بعد خمس دقائق من المساومة إذا هو يبيعها لك بتسعمائة ريال أو بثمانمائة ريال!! فكيف يكون ذلك؟ أيكون قد باعها بخسارة؟! وهو يفعل ذلك مع معظم الناس فلا يبق عندك شك أنه كاذب إنما يريد أن يبيع أو يروج سلعته ولو بالحلف الكاذب. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول محذراً من ذلك في حديث أبي ذر: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، فقلت: من هم يا رسول الله خابوا وخسروا؟ قال: المسبل إزاره، والمنان عطاءه، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) [رواه النسائي وابن ماجه]. فتأملوا رعاكم الله في هذا التهديد الشديد لذلك الذي يحلف بالله عز وجل كذباً وزوراً. وكم من حالف اليوم كذباً على الله وعلى الناس من أجل أمور دنيوية تافهة. فأين تعظيم الله يا من تحلف بالله كاذباً قال تعالى: وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَٱلاْرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَٱلسَّمَـٰوٰتُ مَطْوِيَّـٰتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]. ويزداد الأمر سوءاً عندما يكون الحالف كاذباً لأجل أكل أموال الناس بالباطل وأكل حقوقهم. فيحلف بالله كاذباً أن ليس لفلان عنده دين، وهو قد استدان منه، ويحلف بالله أن هذا ماله وليس ماله..لماذا؟! لكي يأخذ متاعاً من الدنيا يموت ويتركه ثم يعذب عليه، يقول صلى الله عليه وسلم: ((من حلف على يمين يستحق بها مالاً وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان)) فأنزل الله تصديق ذلك: إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَـٰنِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَـئِكَ لاَ خَلَـٰقَ لَهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77]. قال ابن كثير في تفسير الآية: "يقول تعالى إن الذين يعتاضون عما عهدهم الله عليه من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وذكر صفته للناس وبيان أمره وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة والآثمة بالأثمان القليلة الزهيدة وهي عروض هذه الدنيا الزائلة الفانية أُوْلَـئِكَ لاَ خَلَـٰقَ لَهُمْ أي لا نصيب لهم فيها ولا حظ لهم منها وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ أي برحمة منه لهم بمعنى أنه لا يكلمهم كلام لطف بهم ولا ينظر إليهم بعين الرحمة وَلاَ يُزَكّيهِمْ أي من الذنوب والأدناس بل يأمر بهم إلى النار وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " انتهى كلامه. فليحذر إذاً أولئك الذين يحلفون بالله من أجل أكل أموال الناس بالباطل فالأمر عظيم. أما النوع الثاني من الأيمان وهو اليمين على المستقبل، فهذه هي اليمين المنعقدة التي فيها كفارة إن لم يوف بما حلف به. كأن يقول مثلاً: والله لا أفعل كذا. فإن لم يفعل فقد وفى بيمينه ولا شيء عليه، وإن فعل فقد حنث وعليه الكفارة أي كفارة اليمين. والحنث اخوتي هو أن يفعل ما حلف على تركه أو يترك ما حلف على فعله. ويشترط في اليمين التي يؤاخذ بها صاحبها أن يكون قاصداً لها قال تعالى: لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِى أَيْمَـٰنِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلاْيْمَـٰنَ [المائدة:89]. فيمين اللغو إذاً هي التي لم يقصد قائلها عقدها. وينبغي هنا أن نطرح سؤالاً مهماً وهو.. أن الإنسان إذا حلف على شيء في المستقبل فهل الأفضل أن يلتزم بما حلف عليه ولا يحنث أو يحنث ويكفر عن يمينه؟؟ والجواب هو أن هذا يختلف فقد يكون الإلتزام باليمين: 1- واجباً. 2- مستحباً. 3- مكروهاً. 4- محرماً. 5- مباحاً. والالتزام الواجب باليمين كمثل من حلف على فعل واجب فعليه أن يلتزم باليمين وجوباً ويحرم عليه الحنث. كما لو قال: والله لأصلين الفجر في جماعة، فلا يجوز له أن يكفر ويحنث بل يجب عليه الوفاء. والالتزام المستحب كمن حلف على فعل مستحب فيستحب له الالتزام باليمين كما لو قال: والله لأزورن فلاناً اليوم، فيستحب له الفعل. والمكروه كمن حلف على فعل أمر مكروه أو ترك أمر مستحب كما لو قال: والله لا أتصدق على فلان، وذاك فقير مستحق فهنا نقول: يكره لك الالتزام باليمين والحنث أفضل. المحرم كمن حلف على فعل أمر محرم فهذا لا يجوز له الالتزام باليمين. ويحرم عليه ذلك كما لو قال: والله لا أزور أهلي. فهنا يقال له: يجب عليك أن تكفر عن يمينك وتزور أهلك. والمباح كما لو قال: والله لا أتناول طعام الإفطار اليوم ولا يضره ترك الإفطار. وأنبه إلى أنه من حنث في يمين من هذه الأيمان كلها وجبت عليه الكفارة. |