أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل. هذه قصة من قصص النبي حفظها أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر وأرضاه, وجعل أعالي الفردوس مسكنه ومثواه, حافظ الصحابة, وعالم من علمائهم, حفظ هذه القصة العظيمة التي إذا تأملها المسلم وجد فيها عبرة جليلة كريمة حفظها وأرضاه من رسول الله , أخبر بها صلوات الله وسلامه عليه, والله شهيد مطلع عليها, وكفى بالله شهيدًا, وكفى بالله حسيبًا. حاصل هذه القصة الصحيحة التي ثبتت بأصح الأسانيد عن رسول الله أن امرأة كانت عاصية بعيدة عن الله سبحانه وتعالى خرجت ذات يوم فبينما هي تسير في الطريق إذ رأت ذلك الكلب الذي اكتوى بالظمأ والعطش, رأت كلبًا معذبًا قد أنهكه العطش والظمأ وقد وقف على بئر من الماء لا يدري كيف يشرب, يلهث الثرى من شدة الظمأ والعطش, فلما رأته تلك المرأة العاصية أشفقت عليه ورحمته, فنزلت إلى البئر وملأت خفها من الماء ثم سقت ذلك الكلب وأطفأت ظمأه وعطشه، فنظر الله إلى رحمتها بهذا المخلوق فشكر لها معروفها فغفر ذنوبها [1]. بشربة ماء غفرت ذنوبها, وبشربة ماء سترت عيوبها, وبشربة ماء رضي عنها ربها, إنها الرحمة التي أسكنها الله القلوب، فرج بها الغموم والهموم عن كل مهموم ومنكوب، إنها الرحمة التي يرحم الله بها الرحماء, ويفتح بها أبواب البركات والخيرات من السماء, بعث بها سيد الأولين والآخرين كما قال في كتاب المبين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء: 107]. هي شعار المسلمين ودثار .الأخيار والصالحين وشأن الموفقين المسددين، كم فرج الله بها من هموم، كم أزال الله بها من غموم، إنها الرحمة التي إذا أسكنها الله في قلبك فتح بها أبواب الخير في وجهك, وسددك وألهمك وأرشدك وكنت من المحسنين. الرحمة عباد الله أحوج من يكون إليها أقرب الناس إليك، من هم أحوج الناس إلى رحمتك وشفقتك وإحسانك وبرك؟ أحق الناس برحمتك الوالدان: الأم والأب, ما أحوجهما إلى الرحمة, فارحمهما ولا تعذبهما, وسامحهما ولا تؤاخذهما ولا تُهنهما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا [الإسراء: 24]. يحتاجان إلى رحمتك خاصة عند المشيب والكبر, إذا خارت قواهما وصار البياض في شعورهما, والتهبت بالأحاسيس مشاعرهما فهما عند ذلك أحوج ما يكونان إلى عطفك ورحمتك وحلمك, يحتاج الوالدان إلى رحمة الأولاد وهم بين القبور, ينتظران البعث بعد النشور, فما أحوجهما اليوم إلى دعوة صالحة منك, ترفعهما إلى الله جل جلاله أن يفسح لهما في قبريهما فقد صارا غرباء سفر لا يُنتظرون, ورهناء ذنوب لا يُفكون ولا يطلقون, فارفع الأكف الصادقة إلى الله أن يرحمهما, قال: يا رسول الله هل بقي من بري لوالدي شيء أبرهما بعد موتهما؟ قال: ((نعم, الصلاة عليهما والاستغفار لهما, وصلة الأرحام التي لا توصل إلا بهما)) [2]. أحوج الناس إلى رحمتك أولادك أبناؤك وبناتك, وزوجتك, وإخوانك وأخواتك وسائر الأقربين, أحوج الناس إلى رحمتك الأبناء والبنات, عن أنس وأرضاه قال: (ما رأيت أحدَا أشد رحمة بالعيال من رسول الله ) [3], قبَّل الحسن أو الحسين فقال له رجل: إني لي عشرة من الولد ما قبلت واحدًا منهم, قال : ((أوَ أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك)) [4]. ولما دعي صلوات الله وسلامه عليه وقد حضر الموت لابنه إبراهيم فاضت عيناه بالدموع, فقيل: ما هذا يا رسول الله؟ قال: ((هذه رحمة أسكنها الله في قلوب عباده)) [5]. الأولاد يحتاجون إلى العطف والإحسان, يحتاجون منك إلى البر والحنان, فارحمهم برحمة الله جلا وعلا. أحوج الناس إلى رحمتك من قلدك الله أمره من العمال والمستضعفين والمستخدمين, قال : ((إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم)) [6], فأمرنا أن نطعمهم مما نطعم, وأن نكسوهم مما نكتسي, فأحسنوا إليهم, أحسنوا إلى أمثال هؤلاء من المستضعفين, واجبروا خواطرهم طلبًا لرحمة الله رب العالمين, أحوج الناس إلى رحمتك من قلدك الله أمره من الموظفين والمستخدمين, فارحمهم ووسع عليهم, قال : ((اللهم من ولي من أمور أمتي شيئًا فرفق بهم فاللهم ارفق به)) [7], فمن أراد أن تصيبه دعوة النبي فيكون مرحومًا من الله جل وعلا فليوسع على من قلده الله أمره فمن رحمة هؤلاء أن يوسع الإنسان صدره لمن يُسيء منهم ولمن يعتدي عليه من هؤلاء, فالعفو والصفح عن الزلات وستر الخطيئات شأن أهل المكرمات والرحمات. أحوج الناس إلى رحمتك الضعفاء والفقراء, فمن شعائر الإسلام العظيمة إطعام الطعام والإحسان إلى الأرامل والأيتام والتوسيع عليهم طلبًا لرحمة الله الملك العلام قال : ((الساعي على الأرملة واليتيم كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يَفْتُر)) [8], الذي يطعم الأرملة ويدخل السرور عليها ويرحم بُعد زوجها عنها حين يكون لها كزوجها إحسانًا وحنانًا كالصائم الذي لا يفطر من صيامه, والقائم الذي لا يفتر من قيامه, فهنيئًا ثم هنيئًا لأمثال هؤلاء الرحماء. أحوج الناس إلى رحمتك الفقراء، فلعل القليل من المال تكفكف به دموعهم وتجبر به كسر قلوبهم, يكفكف الله به نار جنهم عنك يوم القيامة قال : ((فاتقوا الله ولو بشق تمرة)) [9], وفي الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: إن امرأة دخلت عليها ومعها صبيتان فاستطعمت أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها فأطعمتها ثلاث تمرات, فأعطت كل صبية تمرة, ثم رفعت التمرة الثالثة تريد أكلها فاستطعمتها إحدى البنتين فأطعمتها التمرة فعجبت عائشة رضي الله عنها من صنيعها, فلما دخل رسول الله أخبرته فقال : ((أتعجبين مما فعلت إن الله حرمها على النار بتمرتها تلك)) [10]. الصدقات والإحسان إلى المؤمنين والمؤمنات من أعظم الأمور التي تُفرج بها الغموم والكربات والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. عباد الله: وتعظم حاجة المسلم إذا كان مظلومًا مخذولاً, فعند ذلك يجب عليك نصره, وتجب عليك معونته, ويجب عليك أن تُمدَّ له يد المساعدة لله جل جلاله. عباد الله: وهؤلاء إخوانكم المسلمين وأخواتكم المسلمات يعانون ظلم الكافرين والكافرات, ها هم عباد الله تحت هدير المدافع والرصاص, لا يعلم كيف تمر عليهم الساعات واللحظات إلا الله جل جلاله وقع عليهم ذلك في ظلم واضطهاد لم يكن له من مثيل على مرأى ومسمع من الجليل والحقير. عباد الله, ها هم اليوم تسفك لهم الدماء وتقطع لهم الأشلاء والأعضاء ولا يعلم بحالهم إلا الله فاطر الأرض والسماء, وقفوا اليوم ـ عباد الله ـ ينتظرون منكم العون والمساعدة, ينتظرون منكم أن تغيثوهم بعد الله جل جلاله, فأنفقوا ينفق الله عليكم, وما يدريك فلعل هذا القليل من المال تداوي به جرح مسلم أو تفرج به كرب مسلم فيفرج الله عنك كربة من كرب يوم القيامة, وما يدريك فلعل هذا القليل من المال يكفكف الله به دمعة اليتيم ويجبر به الأرملة, فاحتسبوا عباد الله هُبُوا لنجدة إخوانكم ونصرتهم لله وفي الله، وها هي ـ عباد الله ـ قد يسرت الأسباب لمعونتهم ومساعدتهم فاحتسبوا البذل لوجه الله. اللهم إليك توجهنا، وببابك وقفنا يا منتهى كل شكوى، ويا سامع كل نجوى، ويا كاشف كل ضر وبلوى، أدنى شهيد وأقرب حفيظ يا من يحصى ويبديء ويعيد, يا من يفعل ما يريد, يا ذا البطش الشديد والأمر الرشيد نسألك بعزتك يا ذا الجلال والكمال أن تدمر أعداء الدين، اللهم دمر أعداء الدين، واجمع قلوب عبادك المسلمين واجعلنا رحمة منك يا أرحم الراحمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في كتاب الشرب, باب فضل سقى الماء (5/50) فتح, وفيه (بينما رجل يمشي), ورواه مسلم في كتاب السلام, باب فضل سقي البهائم المحترمة (14/ 241, 242) بشرح النووي. [2] رواه أحمد (3/498), وأبو داود في كتاب الأدب, باب في بر الوالدين عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي. [3] رواه مسلم في كتاب الفضائل, باب رحمته صلى الله عليه وسلم وتواضعه (15/75) بشرح النووي. [4] رواه البخاري في كتاب الأدب, باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (10/440) فتح, ومسلم في كتاب الفضائل, باب رحمته صلى الله عليه وسلم وتواضعه (15/76) بشرح النووي, عن عائشة. [5] رواه البخاري في كتاب الجنائز, باب قوله صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه (3/150) فتح, ومسلم في كتاب الجنائز, باب البكاء على الميت (6/224) بشرح النووي, عن أسامة بن زيد. [6] رواه البخاري في كتاب الإيمان, باب المعاصي من أمر الجاهلية (1/106) فتح, ومسلم في كتاب الإيمان, باب صحبة المماليك (11/133) بشرح النووي, عن المعرور بن سويد. [7] رواه مسلم في كتاب الإمارة, باب فضيلة الأمير العادل وعقوبة الجائر (12/ 212) بشرح النووي, عن عائشة. [8] رواه مسلم في كتاب الزكاة الإمارة ح (1828). [9] رواه البخاري في كتاب الزكاة, باب اتقوا النار ولو بشق تمرة (3/283) فتح, ومسلم في كتاب الزكاة, باب الحث على الصدقة وأنواعها حجاب من النار (07/ 101) بشرح النووي, عن عدي بن حاتم. [10] رواه مسلم في كتاب البر, باب فضل الإحسان إلى البنات (16/179) بشرح النووي. |