أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وراقبوه، واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً، واعلموا أن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور. أيها المسلمون: إن هذه الأرض قد أصلحها الله تعالى أتم الإصلاح برحمته ونعمته، وفضله على خلقه، حين أراد بهم رشداً، فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه متضمنة من البينات والهدى ما تكفل لهم به سبحانه من أسباب السعادة في العاجلة والآجلة، وعداً منه حقاً، لا يتخلف ولا يتبدل؛ فصلحت بذلك هذه الأرض صلاحاً هو غاية الصلاح وأكمله وأنفعه وأبقاه، بل لا صلاح في الحقيقة إلا هذا الصلاح التام الشامل الذي جاء به هذا الدين في كل عقيدة من عقائده، وفي كل شرعة من شرائعه. ولا عجب أن كان الإفساد في الأرض بعد إصلاحها أعظم الإفساد وأقبحه، وأشده إيغالاً في الشر وإمعاناً في النكر ؛ لأنه من أعظم المحادة لله ورسوله والمحاربة لهما ؛ ولأنه نقض للمنافع البينة، وهدم للمصالح الثابتة، وزعزعة للقواعد القويمة التي ابتني عليها بنيان الأمة العقدي والتشريعي الراسخ، وقام عليها كيانها الأخلاقي القوي المتين ؛ ولأن من يبوء بإثم هذا الإفساد إنما يسن بما يصنع سنة سيئة يتبعه عليها غيره، وبئست السنة، وقبحت الطريق، وساء السبيل. وإن للإفساد في الأرض - يا عباد الله – صوراً كثيرة وألواناً عديدة لا تكاد تقع تحت الحصر، ألا وإن أعظم هذا الإفساد: الشرك بالله عز وجل بصرف حقه سبحانه إلى غيره، وهو ظلم عظيم كما قال سبحانه في وصية لقمان لابنه: يٰبُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. وإنه لظلم عظيم يظلم به المرء نفسه أشد الظلم، ويغبنها أعظم الغبن، إذ يسوي الخالق القادر الرازق المدبر المحيي المميت، المتفرد في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته بالمخلوق العاجز الفاني، ولذا كان مثل من أشرك بالله كمثل من هوى من القمة السامقة العلية إلى أسفل دركات الحضيض، كما قال سبحانه: وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ٱلرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]. فأي فساد في الأرض أعظم من فساد من يدعو مع الله أحداً لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً، ولا حياةً ولا نشوراً. ومن ألوان الفساد في الأرض وصوره أيضاً: التردي في ردهة الخطايا، والتلوث بأرجاسها في مختلف ألوانها، ومن أعظمها تلك الكبائر الموبقات المهلكات التي توعد الله من اقترف منها شيئاً بأليم عقابه، وعظيم نكاله، وبينها رسول الله في الصحيح الثابت من سننه، ومنها السحر، وقتل النفس التي حرمها الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، والزنا، ومعاقرة الخمر، وتعاطي المخدرات، والسرقة، وقطيعة الرحم، وإضافة السبيل وغير ذلك من الموبقات التي يوبق بها المرء نفسه ، فتنتقص من إيمانه ، ويغدو باقترافها مطية طيعة للشيطان يسوقها إلى حيث شاء من سبل الشرور ومسالك الغواية ويطمس بصره عن البينات، ويعمي بصيرته عن الهدى، ويزين له عمله، ويمد له في غيه، ويحسّن له عوجه، حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن، فيحسب أن ما هو عليه من الإفساد في الأرض هو الصلاح حقاً بلا ريب، شأن أهل النفاق الذين أخبر سبحانه عن حالهم بقوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلارْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11-12]. وإن من أظهر صور الفساد في الأرض – أيها الإخوة – ما يفعله اليهود اليوم في الأرض المقدسة من عدوان سافرٍ، وبغي مخضع تبدي جلياً في هذا القتل والهدم والتشريد والحصار الذي لم يستثن شيخاً كبيراً، ولا شاباً نضيراً، ولا طفلاً صغيراً، ولا غرو فإنها حلقة من سلسلة من حلقات إفسادهم الأرض. أيضاً: ما وقع فيها من هذا التلوث البيئي الذي عمّ ضرره، واتسع خطره فتأذى به الإنسان والنبات والحيوان على الغبراء، والطير في جو السماء، والحيتان في جوف الماء، كل ذلك بسعي من الإنسان، وثمرة مرّة لما صنعت يداه، بعيداً عن الحيطة والحذر الواجبين، وإعراضاً عن النصح والتفكير والتقدير، وتمادياً باللهف خلف سرعة الإنتاج، وبريق المادة، ووفرة الكسب. وإذا كان الفساد في الأرض إنما يقع فيها بما كسبت أيدي الناس، وبما اجترحوه من سوء ؛ كما قال سبحانه: ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ [الروم:41]. فإن مما لا يرتاب فيه أولو الألباب أن علاج ذلك ورفعه إنما يكون أيضاً بما تكسبه أيدي الناس ؛ لأنه سبحانه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا يتم ذلك إلا إذا ثاب الخلق إلى ربهم ولاذوا به، والتمسوا رضوانه فعبدوه حق العبادة، وأسلموا وجوههم له، وصرفوا حقه له وحده، وتحاكموا إلى شرعه، رضوا به، وسلموا له تسليماً لا يتطرق إليه شك، ولا يعكر صفوه حرج، ولا يكدره تردد ولا تذبذب، ثم أخذوا بعد ذاك بما يسره سبحانه من أسباب القوة وبواعث النماء وعوامل الرخاء التي بثها في مناكب الأرض، ونشرها في أرجائها وسخرها على نحو مقدر متسق موزون، لا يطغى بعضه على بعض، ولا يلغي بعضه بعضاً. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. |