أما بعد: فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى، واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل وعلا طيبٌ لا يقبل إلا طيباً، طيب يحب الطيبين، طيبٌ خلق الجنة وجعلها داراً طيبة وجعلها مأوى للطيبين، طيبٌ جل وعلا يحب الطيبة والطيب من الأقوال، ويحب الطيب من الأفعال، ويحب الطيب في الكسب، ويحب الطيب التصرفات. فالخبيث يكرهه جل وعلا من الأشخاص ومن الأحوال ومن الأقوال والأعمال والأموال، ويحب الله جل وعلا الطيب في ذلك كله، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً)) وقال جل وعلا: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون . وقال جل وعلا أيضاً في سورة المائدة: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون . في هذه الآيات يبين جل وعلا أن الخبيث لا يستوي والطيب، وأنه سبحانه يحب الطيب ويحب الطيبين. وأمر الرسل أن يعملوا صالحاً وأن يأكلوا من الطيبات، فالخبيث ولو على منارة، فالخبيث ولو علا، والخبيث ولو ظهر فإنه لا يساوي الطيب ولا يوزن بالطيب، ولو كان الطيب قليلاً مستخفياً، فإن الطيب يحبه من برأ السموات والأرض، وإن الخبيث يكرهه من برأ السموات والأرض فقد قال لنا جل وعلا: قل لا يستوي الخبيث والطيب الخبيث ولو كثر فإنه لا يساوي الطيب. ويكون الخبث في أشياء، يكون الخبث في الأقوال ويكون الخبث في الأعمال، ويكون في الخبث أيضاً في اعتقادات القلوب، ويكون الخبث أيضاً في المكاسب، ويكون الخبث أيضاً في التصرفات. وفي مقابل ذلك تكون العقائد طيبة، وتكون الأقوال طيبة وتكون الأعمال طيبة وتكون المكاسب طيبة، فإنه لو أعجب المعجبون كثرة الاعتقاد الخبيث وظهور بعض أهله، فإنه لا يساوي طيبه، لا يساوي الاعتقاد الطيب وطيبه رفعة أهله، لأن جل وعلا معهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((ولا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله)). فالاعتقاد الطيب في الله جل وعلا بأنه سبحانه هو الواحد الأحد في ربوبيته، وهو المستحق إن تتوجه القلوب إليه بالرغبة والرهبة، وأن تتوجه الألسنة إليه بالدعاء والاستغاثة وبطلب ما عنده، وأن يكون اعتقاد المرء بالله أنه جل وعلا ذو الأسماء الحسنة الكاملة، وذو الصفات العلى ويتعبد الله جل وعلا بأسمائه وصفاته بالتذلل له بأسمائه وصفاته ومعرفته جل وعلا، فإن من كانت هذه حاله طابت عقيدته وطاب قلبه ولا يصدر عن الطيب إلا طيباً لأن تصرفاته إذاً ستكون لله، ولأن قوله سيكون لله، ولأن محبته ستكون محبة العبادة لله جل وعلا، لأنه سبحانه طيبٌ لا يقبل إلا طيب. وكذلك أيها المؤمنون الخبيث من الاعتقادات فإنه خبيث، ومأوى أهله إن لم يتوبوا الدار الخبيثة. إما أبداً وأما حيناً بحسب حالهم من الكفر والبدعة، فإن الله جل وعلا جعل من اعتقد فيه غير الحق خبيثاً، خبث قلبه، ولو كثرت جموعهم، فإنهم خبثاء لأنهم ليسوا على الحق، فمن اعتقد في أسماء الله وفي صفاته أنها كأسماء وصفات المخلوق فقد خبث اعتقاده، ومن عطل الرحمن جل وعلا عن أن يكون له الأسماء الحسنى على ما دل عليه ظاهره فقد خبث اعتقاده، وكذلك من عطله عن الاتصاف في صفاته وتأول ما ورد في ذلك وأخرجه عن ظاهره فقد خبث اعتقاده، فيكون مبتدعاً بذلك لأنه خالف ما أمر به النبي بما وصف به ربه، بل ترك ما وصف به الجبار جل وعلا نفسه العلية. كذلك من توجه لغير الله في العبادة بأن توجه إلى ولي صالح أو توجه إلى نبي فسأله أشياءه ودعاه والنبي يقول إذا سألنا نسأل الله، والله جل وعلا يقول: وإن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً . فدعى غير الله فنعلم أنه خبيث، خبث اعتقاده، حيث جعل لله شريكاً في الدعاء والمسألة، والله سبحانه واحد هو الذي يجيب الدعاء، هو الواحد الأحد، فمن توجه لغير الله في نوع من أنواع العبادة والدعاء والسؤال فإنه مشرك خبث اعتقاده، فخبث حينئذ قوله، وخبث عمله. وكذلك من لم يتوكل على الله سبحانه بل جعل الأسباب هي التي تحكم العباد، وأنه إذا عمل عملاً فإنه بجده ونشاطه سيحصل له كسبه وسيحصل له نجاحه وسوءاً كان ذلك في الأفراد والمجتمعات فإن هذا اعتقاد خبيث لأن الله جل وعلا هو ولي النعمة وهو الذي على كل شيء قدير. إن الله كان على كل شيء مقتدراً، والله سبحانه وتعالى يحب المتوكلين عليه، وعلمنا جل وعلا إن الأسباب لا تنفع إلا بإذنه وحينئذ صاحب الاعتقاد الخبيث يتكلُ على الأسباب، وصاحب الاعتقاد الطيب الذي طاب اعتقاده بالله يعمل السبب ثم يفوض أمر الانتفاع بالأسباب إلى الواحد الأحد الذي بيده ملكوت كل شيء. أيها المؤمنون: كذلك الأقوال تنقسم إلى خبيث وطيب فالذي خبثت أقواله ولو كثرت فإنه مكروه لله جل وعلا ومبغض، وكذلك يكرهه عباد الله المؤمنون، الذي إذا نطق نطق بغير الحق وإذا حدث، وإذا وعد اخلف، وإذا تكلم تكلم بالنميمة أو تكلم بالغيبة، لسانه ينطق بأنواع من الخبث لا يرعوي، ولا يذكر مقامه بين يدي الله جل وعلا، بل يتساهل بالأقوال، ولا يهمه أن يكون لسانه خبيثاً وهذا من الخبثاء الذين إن لم يغفر الله لهم أو لم يتوبوا فإنهم معرضون لعذاب الله جل وعلا ولتطهيرهم في الدار الخبيثة حتى يكونوا طيبين، وهذا أمر صعبٌ شديد. هل يستوي هذا الذي خبث لسانه مع ذاك الذي طاب لسانه، فإذا تكلم تكلم بذكر الله وإذا نطق نطق بالعلم والحق، إذا تكلم صدق، وإذا وعد وفىّ، وإذا تكلم فإنه يحمي نفسه، ويحمي أعرض المؤمنين من أن ينالوا بسوء. هذا الذي طاب قوله وهذا هو الذي يحبه الله جل وعلا: قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم . وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لمعاذ: ((ثكلتك أمك يا معاذ، هل يكب الناس في النار على مناخرهم أو قال على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)). فلا يستوي من طاب لسانه وقوله ومن خبث لسانه وقوله، تراه واقعاً في لسانه في أنواع من المحرمات، فصار خبيثاُ يتعرض للمحرمات بلسانه، وربما صار من جراء كلامه أنواع من الفساد وأنواع من صد الناس عن الحق وأنواع من إبعاد الناس عن طريق الله جل وعلا بأنواع الكلام وأنواع ما يقال في أي مجال من المجالات. لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث إذا تكلم أهل الحق بكلام طيب فإنه ولو كان ميدانه في الأرض قليلاً فإنه الطيب الذي يحبه الله جل وعلا، ولا يستوي مع كثرة الخبيث ولو أعجبك كثرة الخبيث، لأن الخبيث خبيثٌ وإن العاقبة للطيبين. كذلك أيها المؤمنون في الأعمال لا تستوي الأعمال الطيبة والأعمال الخبيثة، فإن الأعمال الطيبة الصادرة من أهل الإيمان أفراداً كانوا أو مجتمعات أنها طيبة يحبها الله جل وعلا. فترى أهل الإيمان يسعون في الطيبات بأعمالهم وجوارحهم في طاعة الله في صلاة أو في سعي إلى مراضي الله. أو يتحركون في صلة أرحام أو في أمر بمعروف أو نهي عن المنكر أو في كسب معاش يؤجرون عليها، وفي نحو ذلك من الأعمال الطيبة فإنهم يعملون بالطيب ويتقربون إلى الله جل وعلا: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً والعمل الطيب هو العمل الصالح في أي ميدان من ميادين الحياة، في التكافل الاجتماعي وفي السعي بحاجة المسكين والأرملة والضعفاء والمساكين وفي الأعمال الخيرة العامة للأمة، هذه كلها أعمال طيبة يحبها الله جل وعلا، وفي مقابل ذلك الأعمال الخبيثة التي لا تصدر إلا عن قلب خبيث. كالذين يسعون في إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا بأنواع من السعي، وكالذين إذا تكلموا تكلموا في تفريق المؤمنين، وكالذين إذا عملوا عملوا في تفريق المؤمنين ولم يتقوا الله في إصلاح ذات البين، وفي جمع الكلمة، وكالذين يسعون بأعمالهم في أنواع المحرمات فإن هؤلاء وإن كثرت أعمالهم وظنها الناس حسنة فإنها خبيثة، ولا يستوي الخبيث والطيب ولو كثر الخبيث كما قال جل وعلا: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون . كذلك أيها المؤمنون في أنواع المكاسب لا يستوي الكسب الطيب والكسب الخبيث، فدرهم من حلال خيرٌ وأكثر بركة وأعظم عائدة وأنجى بين يدي الله من مئات الألوف أو من ملايين من كسب خبيث محرم من ربا أو من رشوة أو من غش أو من خيانة أو من أنواع المكاسب المحرمة، فالذي نبت جسمه من حرام فالنار أولى به، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما جاء في الحديث الذي ذكرناه آنفاً ((ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)). وقد جاء في بعض الآثار الإلهية أن موسى عليه السلام قال لربه جل وعلا: يا رب دعاك بنو إسرائيل فلم تستجب لهم، فقال الله جل وعلا لموسى: يا موسى لقد مدوا إليّ أيدي سفكوا بها الدم الحرام وأكلوا بها الحرام وعملوا بها الحرام، فأنى استجيب لهم. وهذا يبين لك أن الله جل وعلا لا يتولى إلا للطيبين، وأن تخلص العبد من الخبث في أقواله وأعماله ومكاسبه أنه فرض، وأنه على العباد أن يسعوا في أن تكون أجسامهم وأجسام أولادهم وأهليهم طيبة، حتى إذا دعوا أجيب لهم، وحتى إذا سألوا الله جل وعلا أعطاهم. اسأل الله الكريم من فضل وكرمه وأسأله سبحانه أن يهيئ لنا من أمرنا رشداً وأن يجعلنا من عباده الذين إذا قالوا: طابت أقوالهم، وإذا عملوا طابت أعمالهم، وإذا كسبوا طاب مكاسبهم. اللهم نسألك أن تجعلنا من الذين رضيت عنهم فجعلتهم طيبين، وآويتهم إلى الدار الطيبة يا أكرم الأكرمين، وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون . بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمن من كل ذنب، واستغفروه حقاً وتوبوا إليه صدقاً إنه هو الغفور الرحيم. |