أما بعد: فقد يقول قائل بعد سماعه لما بيناه في الخطبة الماضية: أنت إذاً لا ترى أن يرد أحدٌ على أحدٍ إذا أخطأ في شيء من مسائل العلم والدين والفقه، وأن لا يبين ما وقع فيه العلماء السابقون أو اللاحقون من البدع، وأن لا يشتغل ببيان الحق ولا إنكار المنكر، ولا رد الشبهات، ولا تفنيد الضلالات. فالجواب على ذلك أن كل هذا مطلوب شرعاً ولكنه من واجبات أهل العلم والفقه، ما دخْل الخلوف في ذلك؟ لا شأن لهم في شيء من ذلك، لا يجوز للخلوف أن يتكلموا في شيء من المشكلات الشائكة التي تضل عندها الأفهام، وتزل عندها الأقدام لا يجوز للصغار أن يتكلموا في المسائل الكبار، لا يجوز للصغار أن يتكلموا في المسائل الكبار التي تحتاج إلى خبرة بالعلم وبالفقه، وإلى بصيرة بالأصول والفروع، وبالأدلة والأحكام وإلى قدرة على الاستنباط، وقدرة على تطبيق ذلك كله على الواقع، بل على الصغار أن يردوا الأمر إلى الكبار، إلى أهل العلم، وإلى أهل الفقه، ونحن إنما نقصد المسائل والمعضلات التي لا يدرك الحق فيها كل أحد، أما المسائل الواضحات، أما المنكرات الظاهرات، أما البدع المعلومات فلابد من تحذير الناس منها، وعلى كل أحد أن يبلّغ في ذلك بحسب علمه، أن يبلغ حسب ما يعلم، ونريد أن ننصح شباب الصحوة اليوم، الشباب المقبلين على التعلم والتفقه في الدين، بأن يحذروا من الآفات والعراقيل، التي تحف بهم وهم في طريق التعلم. إن طريق العلم آخره الجنة كما أخبرنا بذلك الصادق الأمين سيدنا محمد ، ولكنه طريق محفوف بالمخاطر، بالمزالق والعوائق. فأولا: يجب على الشباب وعلى كل متعلم أن يتذكر أن المقصود من التعلم هو العمل، المقصود من التعلم هو تصحيح العبادات، وتصحيح المعاملات في حياة الناس. وتصحيح العقائد حتى يلقى المسلم ربه بعقيدة سليمة وبعمل صحيح، ولذلك نكرر دائماً ونقول: إن على الشباب بل على كل مسلم أن يتعلم أمور دينه وأن يبدأ أول ما يبدأ بتعلم الفقه والتوحيد، بتعلم الفقه والتوحيد، ولكننا نرى اليوم الخلوف اشتغلوا بعلوم الاجتهاد وهم بعد لم يفقهوا هذين العلمين الضروريين الواجبين، وهذا من علامات سوء المقصد، وفساد النية، لأنه إنما يفعل هذا من يريد الشهرة ويطلب الرئاسات العلمية. ثانياً: على الشباب وعلى كل متعلم أن يتعلم أدب العلم، كما يتعلم العلم وأن يلزم توقير العلماء والأئمة سابقهم ولاحقهم، سابقهم من باب أولى ولاحقهم، فإن توقير العلماء والأئمة من الواجبات الشرعية، التي يؤاخذ ويأثم من أخل بها، قال المصطفى : ((ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه)) [1]، وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه أمسك الركاب يوما لزيد بن ثاب وهو على فرسه وزيد بن ثابت من علماء الصحابة وفقهائهم، وابن عباس هو ابن عباس معروف، أمسك الركاب عند قدمي زيد، فقال له زيد: تنح يا ابن عم رسول الله ، ابن عباس أمسك الركاب، احتراماً وتبجيلاً وتوقيراً لزيد، وزيد قال له: تنحّ يا ابن عم رسول الله، كره أن يراه في هذا الموقف، تعظيماً لصلته برسول الله ، فقال ابن عباس : لا، بل هكذا نفعل بالعلماء [2]، وظل رضي الله عن الجميع واقفاً عند رجلي زيد ممسكاً بالركاب هذا هو أدب السلف مع علمائهم. أما اليوم فإننا نرى من سوء أدب الخلوف ما يندى له الجبين، نرى من سوء أدب الخلوف ما يندى له الجبين، يقعون في أعراض العلماء، ويسارعون إلى الطعن فيهم، يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، لا يرعون في مؤمن ولا في عالم إلا ولا ذمة، وإن تعجب فعجب وقوعهم وهجومهم على علماء التوحيد باسم التوحيد، يكذبون على أنفسهم وعلى الناس، ويدعون أن هذا من منهج السلف، وهذا والله ليس من منهج السلف، لقد كذبوا على أنفسهم وعلى الناس. ثالثاً: يجب على الشباب وعلى كل متعلم أن لا يشغل نفسه بالمعضلات أثناء التعلم، ولا بالمسائل الغريبات، ولا يجوز له الاشتغال بالشبهات، ولا صرف الأعمار والأوقات في الجدل والخصومات، فإن النفس إذا استسلم المتعلم لها شغف بكل ذلك ومال إليه، وقد كان السلف يحذرون من ذلك كله أشد التحذير، وينهون المتعلمين منه، وليس أضر على طالب العلم من شهوة الجدل، فإن الجدل والخصومة في مسائل العلم والدين قد يجرّ إلى الكفر والعياذ بالله، أما أنه يجر إلى الشحناء والبغضاء والعداوة فهذا أمر واضح جلي لا شك فيه. عن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال في تفسير قوله تعلى: فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء [المائدة:14]. قال : الخصومات والجدال في الدين [3]. وعن بكر بن نصر رحمه الله قال : إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ومنعهم من العمل [4]، وسئل الإمام العظيم وخامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رحمه الله عن قتال يوم صفين فقال: تلك دماء كفّ الله عنها يدي، لا ألطخ بها لساني [5]. فانظر أدب السلف في مثل هذه المعضلات، لكننا نرى اليوم أولئك الخلوف وهم شرذمة قليلون لا يكدرون صفو شباب الصحوة المقبلين على التعلم والتفقه في الدين، وإنما يكدرون على أنفسهم فحسب، نرى أولئك الخلوف شغلوا أنفسهم وشغلوا الناس بالجدل والخصومات، فأرسلوا وسلّوا ألسنة حداداً شداداً بغير شفقة ولا رحمة على المؤمنين، بل حتى على أهل التوحيد، وهذا والله شر مستطير، له ما وراءه، لأنه أسلوب يغرس العداوة والبغضاء بين المؤمنين وبين طلبة العلم على وجه الخصوص. وربما أدى إلى الوقيعة بين بعض أهل العلم، إنه أسلوب يشقق صفوف المؤمنين، ويؤلب بعضهم على بعض. رابعاً: على كل متعلم، وعلى الشباب على وجه الخصوص أن يتلقوا العلم عن أهله، ويأخذوه عن أكابر أهل العلم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولا يلجؤوا إلى الأصاغر إلا عند الضرورة، ولكن عليهم أن يحذروا كل الحذر من المدسوسين والمشبوهين والمجهولين وأدعياء العلم، فإن هؤلاء لا يقودون المتعلم إلا إلى الهلاك والضلال، وليعلم الجميع أنه ليس من منهج السلف أن يجتمع الشباب ليس لهم رأس في العلم بزعم أنهم يتفقهون في الدين، دخل أحد السلف جامعاً فوجد جماعة متحلقين، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قالوا: يتفقهون، قال: هل لهم رأس؟ أي هل لهم شيخ من أهل العلم والفقه يعلمهم؟ قالوا: لا، قال: إذاً والله لا يفقهون أبداً. فالتعلم بدون رؤوس في العلم يقودون الشباب، يقودون المتعلمين إلى العلم الصحيح، ويبينون لهم مسائل العلم وغوامضه، ويكشفون لهم أسراره، ويرشدونهم عند الملمات، ويوجهونهم عند المشكلات، التعلم بدون هذا خطر عظيم، وعواقبه جسيمه. فعلينا أن نلزم رؤساءنا في العلم، رؤوسنا في العلم، ورؤوسنا في العلم هم العلماء الربانيون، المعروفون بالعلم وبالأمانة وبالتقوى والورع، وقول الحق لا يخافون في الله لومة لائم، هؤلاء هم رؤوسنا في العلم، هم أولو الأمر فينا في العلم، تجب علينا طاعتهم وملازمتهم، وأخذ العلم عنهم أو عمن يزكونه من غيرهم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله اليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [النساء:59]. بارك لله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد والطبراني والحاكم من حديث عبادة بن الصامت وحسن المنذري إسناد أحمد وقال الألبانـي : حسـن. صـحيح الترغيب (1/152) [101]. [2] أخرجه الطبراني في الكبير (5/107-108) والخطيب في الجامع [307-308] وفي الفقيه والمتفقه (2/99) وصححه ابن حجر في الإصابة (1/543). [3] أخرجه ابن جرير في تفسيره (10/137) [11598-11600]. [4] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/933) [1777] وصوابه بكر بن مضر. [5] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/934) [1778]. |