يا من رضيتم بالله ربا وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولا اعلموا أن الله قد أنزل في محكم التنزيل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [التوبة:119]. الصدق الذي تتكلم عنه هذه الآية من سورة التوبة إنما هو مطابقة الأمر للواقع وللحقيقة، أو استواء السرائر مع الظواهر، أو استواء البواطن الخافية مع الأمور المعلنة. فلو فتحت صدر الإنسان الصادق وأعطاك الله الاطلاع على قلبه لما وجدت هنالك اختلافاً بين الصفيحة المعلنة وبين السريرة المخبأة، وهذا حال الصادقين، بل إن بعضهم سريرته أفضل من ظاهره، وكان السلف رضوان الله عليهم يقولون: (اللهم اجعل باطننا خيراً من ظاهرنا، واجعل ظاهرناً خيراً). مطابقة الظاهر مع الباطن: ومن نعم الله عز وجل، أن هذه القلوب تتعامل مع علام الغيوب، مع الله عز وجل، والسرائر لا تبقى مخفاة طويلاً، وهي تفترق مع الظاهر أحياناً، ولكنها لا تطيق إلا أن تتطابق بعد فترة؛ فإن كانت سريرته خيراً لابد أن يظهرها الله عز وجل، وإن كان باطنه شرّيراً لابد أن يظهره الله، وما أسرّ أحدٌ سريرة إلا أظهرها الله عز وجل على فلتات لسانه وعلى قسمات وجهه. يستحيل أن يبقى الإنسان مخادعاً لنفسه طويلاً، لأنها فطرة فطر الله الناس عليها، فطرة الله أن تنطبق الظواهر مع البواطن، فإذا افترق خط الظاهر مع خط الباطن لفترة؛ بنفاق أو كذب أو رياء أو غير ذلك لا يستقيم هذا الحال طويلاً، لأن الفطرة قد فطرها الله عز وجل على أن لا تتقبل الباطل طويلاً، ولا تطيق المداهنة أمداً بعيداً. كل فطرة وكل قلب يحب أن يعود إلى فطرته التي فطره الله عليها. صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة [البقرة:138]. فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون [الروم:30]. ومن هنا فالفطرة الحقيقية التي صبغها الله وخلقها بيده سبحانه؛ لا تطيق الزور والبهتان ولا تطيق الكذب لطويل من الزمان. ولهزة من الهزات بتذكير من بعض الدعاة، أو بسماع آية من الآيات تجد هذه الفطرة تنتفض وتهتز وينتفض عنها ركام الواقع وركام الزور والبهتان والباطل، ثم تنطق بالحقيقة. وكم من الناس يظلمك أو يكذب عليك أو يخطط لك، وأمام صدقك وصبرك الطويل تجد فطرته تنتفض، فيعبر عن ندمه وخطئه إما بدموع هاتنة [1] بين يديك، أو بتوبة صادقة على يديك، ويفتح لك هذا القلب الذي ما أطاق الباطل والبهتان طويلاً. فأما الزبد فيذهب جفاء، ولا ينفع في العمل إلا الصدق، ولا يقبل الله عملاً إلا إذا كان صادقاً. ليبلوكم أيكم أحسن عملاً [الملك:3]. كما قال الفضيل بن عياض: (أصوبه وأخلصه)، وأخلصه: من الرياء، وأصوبه: يعني أصدقه؛ ما كان موافقاً لسنة رسول الله ، ولما جاء به الوحي الأمين من عند رب العالمين. وبدون الصدق لن يستقيم لنا أمر، ولن تصلب لنا قناة، ولن نستمر على ثبات، ومآلنا إلى تمزق وشتات. كم من الناس كانوا يخطبون، أوتوا جوامع الكلم، ويعجبك في لحن القول، ويلوون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وكان الناس يتجمعون حولهم، وكنت أطمئن قلبي أن هذا الأمر لن يستقيم طويلاً، لأن الزبد لن يمكث في الأرض. فأما الزبد فيذهب جُفآء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض [الرعد:17]. لن يعيش في الأرض ولن يستمر إلا الحق، وما نبت منه، والخبيث ليس له جذور في أرض الواقع، وليس له استدامة في الحياة. ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار [إبراهيم:24]. إن الخبث لا يستطيع أن يتماشى مع الفطرة الإنسانية، ولا يستطيع أن يضرب جذوره في القلوب البشرية، ليس له جذور في أعماق الفطرة الإنسانية، إنه طارئ ويبقى مؤقتا، وسرعان ما يزول كما تزول البثور عن الجلد إذا ظهرت، إنها عبارة عن دمامل وقروح، وسرعان ما يتغلب عليها الجسد وتزول من فوق البشرة. وأما الحق فإنه ثابت عميق مستمر وإلى أن نلقى الله عز وجل. والسبب: أن الله هو الحق، ولا ينصر إلا الحق، ولا يديم إلا الحق، ودينه الحق. ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل [الحج:62]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال . كان الناس يتجمعون حول بعضهم – كما قلت لكم – كنت مطمئنا أن الزبد لن يبقى، كنت مطمئنا أن الخبث لن يعيش، وكنت أطمئن من حولي: هذه عبارة من فقاعات، ورغوة الماء سرعان ما تنفض، والله عز وجل يقول: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث [المائدة:100]. والخبيث يركمه رب العزة بعضه فوق بعض، يركمه جميعاً، فيجعله في جهنم وأصحابه هم الخاسرون. وتمضي الأيام – ومن خلال تجارب الحياة – لتثبت ما كانت تحدثني به نفسي: أن الزبد لا يعيش، وأن الغثاء لا يستمر، وأن سفساف الأمور مآلها إلى الزوال، وسرعان ما تزول بهبَّة ريح من اليمين إلى الشمال. ولذا فقد كان السلف رضوان الله عليهم حريصين على الحق وإن كان مراً، حريصين على الصدق وإن كان ثقيلاً، حريصين على مطابقة الظواهر مع البواطن وإن كان من أحمز الأمور وأشقها. أحدهم تجده وهو يحرص أن يكون له أعمال بينه وبين الله عز وجل لا يطّلع عليها أحد من الناس، فإذا اكتشف الناس عباداته تجده سرعان ما يفارق مكانه ليختفي بين العوام. كان الإمام أحمد – رحمه الله – إذا مر في الشارع يسير بين الحمّالين حتى لا يشار إليه بالبنان، حتى يظنه الناس حمالاً – شيّالاً وعتّالا – فلا يشيرون إليه البنان. كان أحدهم إذا دخل المعركة يتلثم، أو جاء بغنيمة كبرى يتلثم ثم يضعها حتى لا يعرف الناس اسمه. وكلكم تعرفون صاحب النقب يوم أن حاصر مسلمة بن عبد الملك حصنا من الحصون فترة طويلة، وذات ليلة انسلّ أحد المجاهدين وتسلق سور الحصن، ونزل على الحراس، وقتل الحارس وفتح نقباً في السور، ودخل الجيش الإسلامي، واحتل الحصن، ونادى طويلاً، نادى مسلمة طويلاً: أيكم صاحب النقب؟ فلم يتقدم إليه أحد، وذات ليلة وإذا بفارس ملثم يدخل خيمة مسلمة ويقول: أتحب أن تعرف من صاحب النقب؟ قال: نعم، قال: بشرط؛ أن لا تذكر اسمه لأحد، وبشرط أن لا تثيبه ولا تجازيه، قال: نعم، قال: أنا صاحب النقب، ولم يذكر اسمه ثم فر هارباً. فكان بعدها مسلمة كلما توجه إلى القبلة بالدعاء يقول: (اللهم احشرني مع صاحب النقب). أعمدة البناء : هذه النفوس الصادقة والنماذج الرفيعة هي التي كانت تحفظ المجتمع الإسلامي من الانهيار، يوم أن كانت الشهوات تتسلط على الأمراء وعلى الحكام؛ كان الذي يحفظ المجتمع من الانهيار، ويحفظ الأرض من الاهتزاز، ويحفظ الناس من التمزق والشتات؛ هذه النماذج الرفيعة التي بقيت طيلة المجتمع الإسلامي منبثـّة وبِنسَبٍ قد تقل أو تكثر، هذه تمثل أعمدة البقاء لهذا البنيان الذي يسمى "المجتمع المسلم". وهذه الأعمدة الإسمنتية المسلحة قد يكون عدادها أربعة ولكنها تمسك – وعلى قرونها تمسك – بنيانا ضخما قد يصل إلى مائة طابق أو يزيد أو يقل. وكلما خلا المجتمع من الصادقين، وكلما اختفت هذه النماذج الرفيعة التي يقول عنها : ((الأخفياء الأتقياء الأبرياء)) [2]. كلما اختفت تدريجياً من المجتمع – كلما بدأ المجتمع يتآكل وينهار ويتشتت ويتمزق. ولذا؛ فليست مشكلة الإسلام اليوم سوى قلة الصادقين بين العاملين لله، سوى قلة الأخفياء الأتقياء الأبرار الذين يتصدرون لقيادة الأمم، ويتصدرون لتوجيه السفينة، فإذا أمسكت السفينة يدٌ صادقة قادتها إلى شاطئ الإسلام بشراع الأمان وبيد القوي الأمين، المجاهد الصادق الذي لا يُعرف اسمه ((الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا))، غابت ملامح وجوههم وراء غبار المعركة، وغطى صليل السلاح وقذائف الطائرات والدبابات على مسامعهم فلا تسمع الغثاء، وليس عندهم وقت لاستماع غيبة أو تجسس أو نميمة أو ريبة، فالأمر أعظم من ذلك، الأمر جلل، الأمر أكبر من أن يلتفت إلى نقيق ضفادع أو إلى نعيب غربان، إن الأمر أعظم من ذلك. وكما قال لعبد الله بن عمرو بن العاص في الحديث الحسن الذي رواه أصحاب السنن: مر علينا رسول الله ونحن نصلح خُصّاً لنا قد وهى – خصاً من القصب ومن الخشب قد ضعف –، فقال : ((ما أظن الأمر إلا أعجل من هذا)) [3]. أنتم مشغولون بتصليح خُصّكم؟ إن الأمر – أمر الآخرة – أعجل من هذا. ومن هنا كانت الآخرة تشغل حياتهم، كانت رقابة الله تكف أنظارهم عن كل شيء، هم ينظرون إلى الدنيا من قمم عالية، وما أصغر الدنيا للذين يحلقون في أجواء السماء، ألم تركب الطائرة؟! إن أرض المطار كبيرة في نظرك وأنت على الأرض، فإذا غادرت أرض المطار تختفي العمارات الشاهقة تدريجياً، ثم تختفي كل الأرض نهائياً، إنك الآن تحلق في الفضاء، وتشق عنان السماء، ولذا لم يبق لك في الأرض تعلق ولا ارتباط. هكذا كان السلف، هكذا كان الصادقون، هكذا كان الصالحون. الجزاء من جنس العمل: والله عز وجل من حكمته ونعمته ورحمته، أنه يعامل الناس بما يطوون في مكنون ضمائرهم، وأنه يعاملهم بما تدخره صدورهم من سرائرهم وبما تتوجّه إليه نياتهم، وسبحان ربي! إن العقوبة من جنس العمل، هكذا علّمتنا السنة، وعلّمنا قبلها الكتاب. فاذكروني أذكركم [البقرة:152]. ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم [الحشر:19]. نسوا الله فنسيهم . ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين [آل عمران:54]. فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنّا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون [النمل:51]. قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما قال: (لقد وجدنا في التوراة أن من حفر لأخيه حفرة أوقعه الله فيها)، قال هي في القرآن: ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله [فاطر:43]. الظلم أول نتيجة على صاحبه. وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [النمل:118]. المكر نتيجة على صاحبه. فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين [النمل:51]. الكيد كذلك يكيد الله لهم [4]، وهكذا. فإياك أن تظن أن مكنون ضميرك خافٍ – إن أخفيته على الناس لفترة – خاف عن علام الغيوب الذي خلق هذه القلوب وبيده مفاتيحها سبحانه وتعالى، إياك يا أخي أن تسر سريرة لا يرضاها الله عز وجل، وإياك أن تنوي نية لا يقبلها الله عز وجل، إياك، إياك ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكم امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) [5]. قلت: كم هزّني جواب أحد الأخوة عندما قلت له: ألا تتزوج من هذه البلاد؟ قال: لا أتزوج حتى لا أخلط هجرتي، حتى لا تختلط هجرتي بشيء من الدنيا. محور المجتمعات: يا أيها الأخوة: إن أعظم الناس الذي يغيّرون المجتمعات؛ ثلاثة من البشر: العالم، والكريم، والمجاهد. هؤلاء – الثلاثة أصناف – هم محور المجتمعات، حولها تدور، وهم قاعدتها، إذ يحملون بصلابة كواهلهم كل المجتمع، فلذلك هؤلاء الثلاثة إن صدقوا، العالم، والكريم، والمجاهد، يصبح المجتمع طاهراً نقياً متماسكاً، وإن ساءت نياتهم وفسدت طوياتهم، تحول المجتمع كله إلى ركام من القمامة، لأن القلوب كالفاكهة، كالزهرة، إن كانت هذه الفاكهة نقية ناضجة فهي لا تعبق إلا عطراً، ولا تعطي إلا لذة وحلاوة، وإذا فسدت – كالفاكهة التي تفسد – لا ينبعث منها إلا الروائح الكريهة التي تزكم الأنوف وتتقزز لها الأبدان. فإذا فسدت القلوب بدأت الروائح الكريهة التي تؤذي المجتمع كله من الفساد، والنميمة، والغيبة، والريبة، والظن السيء وغير ذلك، وهذه تحول المجتمع كله إلى مجتمع متنافر متدابر، كلٌ آخذ بأنفه حتى لا يشم الرائحة من جاره أو ممن كان بقربه. هؤلاء الثلاثة يحذرهم رسول الله - في الصحيحين كما جاء في الرواية – ((أول ما تسعّر النار يوم القيامة بثلاث)) – ثلاثة أصناف من البشر ((عالم ومنفق ومجاهد))، هؤلاء أول وقود النار، العالم والمنفق والمجاهد، يا لله! مجاهد قدم دمه وبعد ذلك يكون أول وقود النار، منفق لم يبق في جيبه درهم يحيى به المجتمعات، ويسد به الحاجات ويغيث به، ويفرج الكربات، به تسعّر النار ويكون من حطبها ووقودها!!، نعم هكذا في صحيح مسلم: ((أول ما تسعر النار يوم القيامة بثلاث: عالم، ومجاهد، ومنفق كريم، أما العالم فيأتي الله به ويسأله ماذا فعلت في الدنيا؟ فيقول: تعلمت العلم في سبيلك، ونشرته ابتغاء مرضاتك، - أو كما قال فقال: كذبت تعلمت ليقال عنك عالم، وقد قيل، فأخذت أجرك في الدنيا، ثم يأمر به فيلقى في النار، ثم يؤتى بالمنفق فيقال له: ماذا فعلت في الدنيا؟ اكتسبت المال من حلال، وأنفقته في سبيلك، كذبت، أنفقت المال ليقال عنك جواد، وقد قيل، فأخذت أجرك في الدنيا، ثم يأمر به فيلقى في النار، والثالث: ماذا فعلت؟ قاتلت في سبيلك حتى قتلت، كذبت، قتلت ليقال عنك جريء، وقد قيل فأخذت أجرك في الدنيا، ثم يأمر به فيلقى في النار)) [6]. فعندما سمع معاوية هذا الحديث من أبي هريرة بكى حتى اخضلت لحيته ثم أغمي عليه، وبعد أن أفاق قال معاوية صدق رسول الله يقول الله عز وجل: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [هود:15-16]. وقبل أن أقرأ هذه القصة عن سيدنا معاوية ما كنت أمر على هذه الآية إلا وتهزني من أعماقي ولعلها أخوف آية كنت أمر عليها عندما كنت أقرأ القرآن: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [هود:15-16]. والبشر قد تغيب عنهم قدرة الله فترة، وقد لا يقدرون الله حق قدره، أو لا يرجون وقار الله، ولا يجلّونه حق جلاله، فيتعاملون مع البشر كأن القوة النهائية والنتيجة الختامية بأيديهم، وهم لا يعلمون. بشر تغيب عنهم قوة العزيز الجبار، فيتسلطون ويظلمون ويبطشون، ويحاولون أن يخفوا آثار الصادقين، ولكن الحق الذي لا يقبل إلا الحق، والطيب الذي لا يقبل إلا طيباً، سبحانه إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، ولو كره المشركون، ولو كره الظالمون والمجرمون. أمثلة حية من التاريخ: أنا أضرب لكم مثالين من التاريخ الإسلامي القديم والحديث. المثال الأول: شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – لقد أفتى أن طلاق الثلاث في جلسة واحدة يقع طلقة واحدة وخالف، به فقهاء المذاهب الأربعة، وأفتى بذلك تلميذه ابن القيم، فوضعوهم على جمل طافوا بهم في دمشق وأغروا بهم السفهاء، والولدان وراءهم يطقطقون، ويصفقون، ويهزؤون، وألقي ابن تيمية في السجن، ألقي في السجن، يحدث في الفتاوى يقول: - لقد كنت أتفقد بعض الأسر قبل أن ألقى في السجن، وعندما ألقيت في السجن قطعت هذه المعونات للأسر الفقيرة، فكنتُ متألماً على هذا، وكانت الأخبار تأتيني إلى السجن من الأسر: أنك تأتينا بنفسك وشكلك، وتدفع لنا نفس المبلغ الذي كنت تدفعه. يقول ابن تيمية: إن إخواننا من الجن يقومون بمقامنا، إذا تنكرت الأرض كلها فعالم الجن والملائكة مع المؤمن، عالم الجن المؤمن. يقول ابن تيمية كلمته المشهورة: (ماذا يصنع فيّ أعدائي، إن جنتي وبستاني في صدري لا تفارقني، - إن جنتي وبستاني ومحل استظلالي من هاجرة المجتمع وحره في صدري لا تفارقني – إن سجني خلوة، وإن قتلي شهادة، وإن نفيي سياحة، ولو أعطيت الناس الذين سجنوني مقدار ملء هذه القلعة ذهباً ما وفيّتهم الحق الذي أعطاني الله إياه، ومات ابن تيمية، وأخذت بعض رسائله بعد أن قطع عنه القلم والورق عن السجن فكان يمسك ببعض حجارة السجن والملقاة على أرضه ويكتب على الجدران، فنقلت هذه، وأحرقت كتبه، وظن الطغاة أنهم قد أطفئوا نور هذا العالم وغيّبوا معالمه. ويدور الزمان، بعد ستة قرون ونصف تماماً، يظهر الله في الجزيرة العربية البترول – والذين يظهر عندهم البترول، علماؤهم تربوا على كتب ابن تيمية – وبهذه الأموال الضخمة طبعت كل كلمة كتبها ابن تيمية، ووزعت على كل أرجاء الأرض، فلا تكاد مكتبة إسلامية في الأرض تخلو من كتاب أو أكثر من كتب ابن تيمية، وأيُّ عالم في الأرض الآن أشهر في أذهان المسلمين من شيخ الإسلام ابن تيمية؟! بعد ستة قرون، إنه الصدق العجيب الذي يفجره الله ذكراً حسنا في الأرض وترحيباً من الملأ الأعلى في السماء. وهذا سيد قطب مثال آخر: رجل كان يعيش بين ظهرانينا، عرضت عليه الدنيا كلها، عرضت عليه الوزارة وهو وراء القضبان، وعرضت عليه الدنيا؛ أمانة الاتحاد الاشتراكي، مديرية المطبوعات والنشر، وزارة التربية والتعليم. وخلال فترات متراوحة من سجنه الذي قضى معظمه في داخل شفخانة السجن، داخل مصحة السجن، إذ أنه كان يحمل في طيات بدنه الناحل قائمة من الأمراض، وكان إذا زار السجن أحد الزعماء الذي يحبون الإسلام وطلب مقابلة سيد، يحتاج إلى حمام ساخن، يجلس في الماء الساخن لمدة ساعتين – حتى يستطيع مقابلة الناس. أعدم سيد قطب، وقبل هذا الإعدام كان يردد كلمته: "إن إصبع السبابة التي تشهد لله بالوحدانية في الصلاة لترفض أن تكتب حرفاً واحداً تقر به حكم طاغية". ومضى سيد قطب إلى ربه، وكم من المضحكات المبكيات. وكم ذا بمصر من المضحكات وإن كان في شأنه كالبكا لتتم المسرحية يأتون بأحد المشايخ يقابله قبل أن يصعد المشنقة يقول له: إن من مراسم الإعدام أن تقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، فقل يا (سيد) "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله"، فنظر إليه وقال له: حتى أنت جئت تتم المسرحية، حتى أنت يا هذا، أنت تأكلون الخبز بلا إله إلا الله، ونحن نعدم من أجل لا إله إلا الله. وأعدم سيد قطب في أعماق سجن الاستئناف، وحتى الآن لا يعرف أهله أين قبره. ولقد كان أحد ذويه يشكو إليّ بمرارة: ليتنا نعرف القبر حتى نزوره، قلت له إن رب البشر يعرف أين قبره، ما حاجتكم بقبره؟ لقد لقي (سيد) ربه، و(الظلال) – طيلة حياته – لم يطبع سوى طبعة واحدة، وفي السنة التي أعدم فيها طبع (الظلال) سبع طبعات!! سبع طبعات، بل كانت المطابع النصرانية في بيروت إذا أشرفت على الإفلاس، تنصح بعضها حتى تنقذ نفسها من الإفلاس، تقول لبعضها: اطبعوا الظلال فإن حياتكم تعود إلى الاستمرار. سر الإخلاص: إن الإخلاص والصدق له سرّ عجيب في هذه الدنيا وفي الآخرة، إياكم أن تتعاملوا مع الله إلا بالصدق والإخلاص، إياكم أن تتعاملوا بالمكر والدهاء، إياكم أن تعجبكم أنفسكم فتقولوا: إنما أوتيته على علم عندي . إياكم أن يوسوس لكم الشيطان فينفخ في عروقكم الغرور وحب الظهور، أو إيذاء المسلمين، فأنت تتعامل مع رب العالمين، وهذا الذي يقابلك – العبد الضعيف – إنما يدافع عنه الله: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب))، فهل تستطيع مبارزة رب العالمين في ميدان مكشوف، ومعركة حامية الوطيس؟ إن الذي تقابله لن تستطيع ضرّه. وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط [آل عمران:120]. لن يضروكم إلا أذىً وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون [آل عمران:111]. أيها الإخوة: إن كنت داعية فاصدق الله، وإن كنت كاتباً فاصدق الله، وإن كنت حارساً فاصدق الله، وإن كنت مجاهداً فاصدق الله، وإن كنت موظفاً فاصدق الله. إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤتِ من لدنه أجراً عظيماً [النساء:40]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
[1] هاتنة: متتابعة. [2] رواه أبو حاتم والبيهقي والحاكم وقال: صحيح ولا علة له انظر الترغيب والترهيب 3/444. [3] حديث صحيح (راجع صحيح الجامع 2789. [4] أي أن الكبد كالمكر أيضاً فمن كاد فإنه سيكاد له. [5] رواه البخاري في صحيحه. [6] الحديث مروي بنحو لفظه.
|