أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الناس: وممـا زادني شرفـا وفخـرًا وكدتُ بأخْمصي أَطأُ الثريَّا دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن صيَّرت أحمد لِي نبيّـا من مبادئنا الأصيلة ومن تعاليمنا الجليلة أن نفتخر بهذا الدين، وأن نتشرف بأن جعلنا الله مسلمين، فمن لم يتشرف بالدين ومن لم يفتخر بكونه من المسلمين، ففي قلبه شك وقلة يقين، يقول الله في محكم التنزيل، مخاطبًا رسوله، : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف: 44]. أيْ: شرف لك، وشرف لقومك، وشرف لأتباعك إلى يوم القيامة، فالواجب أن تتشرف بالقرآن، لكونك من أمة القرآن، ومن أمة الإسلام. بشرى لنـا معشر الإسلام أنّ لنـا مـن العنايـة ركنًا غيْر مُنْهدِم لَمّـا دعـا الله داعينـا لطاعتـه بأكرم الرُّسْـلِ كنا أكرمَ الأممِ ولذلك يقول جلّ ذكره: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 139]. قال الأستاذ سيد قطب: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ الأعلون سندًا، والأعلون مبادئًا، والأعلون منهجًا، فمبدؤكم المبدأ الأصيل، وقرآنكم القرآن الجليل، وسندكم الربُّ الفضيل، فكيف يَهِن من كان الله سنده، وكيف يهن من كان الله ربه ومولاه، وكيف يهن من كان رسوله وقدوته محمدًا ، وكيف يهن من كان دينه الإسلام. ولذلك كان لِزامًا علينا أن نفخر، وأن نشعر بالشرف والجلالة والنُّبل، يوم أن جعلنا الله مسلمين؛ لأن بعض الناس قد يخجل أن يلتفت إلى السّنّة، أو أن تظهر عليه معالم السنة، وهذا خطأ كبير وانهزام نفسي فاحش. كيف يخجل المؤمن من السنة ونجاته يوم القيامة موقوفة على اتباعها؟! ويظن بعض هؤلاء أن الغرب بما وصل إليه من تقدم علمي هم أهدى سبيلاً من أهل الإيمان والإسلام! ولذلك يَرُدّ الله عز وجل على الذين ظنوا أن مبادئ الشرف ومبادئ الرِّفعة، في تحصيل الأموال وامتلاك الدنيا فقال سبحانه: وَقَالُوا لَولاَ نُزِّل هَذَا القُرآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيم أَهُمْ يَقسِمُونَ رَحمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحمَةُ ربِّك خَيرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: 31، 32]. الشرف كل الشرف ليس في الدور، ولا القصور، ولا في الأموال، ولا في الأولاد، ولا في الهيئات ولا في الذوات، الشرف أن تكون عبدًا لرب الأرض والسماوات، الشرف أن تكون من أولياء الله، الذين يعملون الصالحات، ويجتنبون المحرّمات. جاء عبد الله بن أم مكتوم الضرير الفقير المسكين إلى المصطفى يسأله في بعض الأمور، والرسول مشغول بكفار قريش وساداتهم و يريد أن يهديَهم إلى صراط الله المستقيم، فلما دخل عليه قال: يا رسول الله، أريد كذا وكذا فأعرض عنه لأنه لا يريد أن تفوته الفرصة مع هؤلاء الكبار، فعاتبه ربه من فوق سبع سماوات، عاتبه في أمر هذا المسكين الضرير، يقول الله له: عَبَسَ فخاطبه بخطاب الغَيْبة، ولم يقل (عَبَسْتَ) وإنما يقول: عَبَسَ أي: تغير وجهه واكفهرّ، عبس هذا الرسول، عبس هذا النبي، عبس هذا الداعية في وجه الرجل الصالح عَبَسَ وَتَوَلَّى أي: أعرض عنه عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس: 1، 2]، ولم يُسمِّه باسمه، إنما ذكره بصفته أَن جَاءَهُ الأَعْمَى ثم قال له: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس: 3]، من أخبرك بحاله؟ لعله أراد أن يتطهّر بالعلم النافع أراد منك أن تُفقّهه بالدين، أراد منك أن تقوده إلى رب العالمين، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعهُ الذِّكرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى [عبس: 4، 5]، أما الكافر الذي استغنى عن الرسالة والرسول، وعن القرآن والسنة، وعن الهداية والنور أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: 5، 6]، تستقبله، وتهش وتبش في وجهه، وتلين له في الخطاب. هؤلاء الجبابرة الذين أتوك تستقبلهم، أما هذا الأعمى فتعرض عنه، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيكَ أَلاَّ يَزَّكَّى [عبس: 6، 7]، ليس عليك حسابهم، ذرهم يموتوا بكفرهم وجبنهم وعنادهم وجبروتهم، فالنار مثواهم، وَمَا عَلَيكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى [عبس: 7–9]، لا، لا تفعل. فأتى عبد الله بن أم مكتوم مرة ثانية، فقام له ، وعانقه، وفرش له رداءه، وقال له: ((مرحبًا بالذي عاتبني فيه ربي)). وبالفعل كانت النتيجة أن من مات من هؤلاء الأشراف السادة، ماتوا على الكفر ودخلوا نارًا تلظى، وأما عبد الله بن أم مكتوم فأسلم واستمر على إسلامه ووفائه. ولما أتى داعي الهداية وداعي الكفاح وداعي الجهاد وارتفعت راية الإسلام في يد عمر رضي الله عنه وأرضاه ونادى بالنفير إلى القادسية، إلى معركة فاصلة، مع آل كسرى وآل رستم، كان من المجاهدين عبد الله ابن أم مكتوم. قال له الصحابة: إنك معذور، أنت أعمى، قال: لا والله، الله يقول: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً [التوبة: 41]. فلما حضر المعركة سلموه الراية، فوقف مكانه حتى قتل، فكان قبره تحت قدميه رضي الله عنه وأرضاه. سلام على ذلك الصديق المخلص، وسلام على ذلك المنيب، الذي تشرف بالإسلام، فكان قلعة من قلاع الحق، استقبلت نور السماء، فوزعته على البشرية، والرسول عليه الصلاة والسلام، كما قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: ما أعجب رسول الله شيء من الدنيا ولا أعجبه أحد قط إلا ذو تقى. رواه أحمد. وعبد الرحمن بن عوف يقول: والله، ما رأيت متقيًا لله إلا وددت أنني في مسلاخه. ترى المتقي، فيحبه قلبك إن كنت مسلمًا؛ لما يظهر عليه من علامات النصح والقبول والرضا، وترى الكافر فيبغضه قلبك ولو كان وسيما جميلاً، فعليه آيات السخط والغضب، وعليه سمات الإعراض عن الله. وإذا رأيتهم تعجبُك أجسامُهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خُشُبٌ مُسَنَّدة [المنافقون: 4]. أما الأجسام فطويلة، وأما البشرة فجميلة، ولكن القلوب قلوب ضلالة، وقلوب جهالة، وقلوب عمالة، ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم، لا يملكون في الدنيا قليلاً ولا كثيرًا، ولا يجد أحدهم إلا كسرة الخبز، وينام في الطرقات، ولكن الله نظر إلى قلوبهم فهداهم إلى الإسلام، أما الذين يتغنون في القصور والدور، قد لا يهديهم سبحانه وتعالى سواء السبيل: ولو عَلِمَ الله فيهم خيرًا لأسمَعَهم ولو أسْمَعَهم لتولَّوْا وهم معرضون [الأنفال: 23]. جاء جليبيب إلى رسول الله ، فتبسم عليه الصلاة والسلام، لما رآه، وقال وهو يناصحه: ((يا جليبيب أتُريدُ الزواج؟ فقال يا رسول الله: من يزوجني، ولا أسرة عندي، ولا مال، ولا دار، ولا شيء من متاع الدنيا. فقال عليه الصلاة والسلام: اذهب إلى ذلك البيت من بيوت الأنصار، فأقرئهم مني السلام، وقل لهم: إن رسول الله ، يأمركم أن تزوجوني))، فذهب وطرق عليهم الباب وكانوا من سادات الأسر، ومن كبريات العشائر في الأنصار، فخرج ربُّ البيت، ورأى جُليْبيبًا وهيئته وفقره وعوزه، فقال له ماذا تريد؟ فأخبره الخبر، فعاد إلى زوجته، فشاورها، ثم قالوا: ليته غير جليبيب؛ لا نسب، ولا مال، ولا دار، فشاوروا تلك البنت الصالحة، التي تربت في مدرسة التوحيد، فقالت: وهل نردُّ رسولَ رسولِ الله ، فتزوج بها، وعمر بيته الذي أسسه على تقوى الله - عز وجل – ورضوانه، ترفرف عليه المسكنة، ويزينه التكبير والتهليل والتحميد، وتظلله الصلاة في الهجيرِ، والصيام في شدة الحر. وحضر النبي ، معركة من المعارك، فلما انتهت بالنصر، قال ، لأصحابه: ((هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم، فلانًا وفلانًا وفلانًا. ثم قال : هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم، فلانًا وفلانًا وفلانًا. ثم قال : هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا. قال: : لكني أفقد جليبيبًا فاطلبوه فطُلب في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعةٍ قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتى النبيُ ، فوقف عليه، فقال: قتل سبعةً ثم قتلوه. هذا منِّي وأنا منه، هذا مني وأنا منه، ثم وضع ساعديه، ليس له إلا ساعدا النبي ، ثم حُفِر له، ووضع في قبره)) رواه مسلم. لقد كانت عظمة هؤلاء يوم اتصلوا بالواحد الأحد، وعرفوا الله عزّ وجلّ، فَعَرَّفهم الله عز وجل على منازل الصديقين. دخل سليمان بن عبد الملك الحرم، ومعه الوزراء، والأمراء، والحاشية، والجيش، فقال: مَن عالم مكة؟ قالوا: عطاء بن أبي رباح، قال: أروني عطاء هذا، فأشرف عليه، فوجده عبدًا، كأن رأسه زبيبة مشلولاً نصفه، أزرق العينين، مفلفل الشعر، لا يملك من الدنيا درهمًا ولا دينارًا، فقال سليمان: أأنت عطاء بن أبي رباح الذي طوّق ذكرك الدنيا؟ قال: يقولون ذلك، قال بماذا حصلت على هذا العلم، قال: بترك فراشي في المسجد الحرام ثلاثين سنة، ما خرجت منه، حتى تعلمت العلم، قال سليمان: يا أيها الحجاج لا يفتي في المناسك إلا عطاء. وحدث ان اختلف سليمان وأبناؤه في مسألة من مسائل الحج، فقال: دلوني على عطاء بن أبي رباح، فأخذوه إلى عطاء وهو في الحرم، والناس عليه كالغمام، فأراد أن يجتاز الصفوف، ويتقدم إليه وهو الخليفة، فقال عطاء: يا أمير المؤمنين، خذ مكانك، ولا تتقدم الناس؛ فإن الناس سبقوك إلى هذا المكان، فلما أتى دوره سأله المسألة فأجابه، فقال سليمان لأبنائه: يا أبنائي، عليكم بتقوى الله، والتفقه في الدين، فو الله ما ذللت في حياتي إلا لهذا العبد. لأن الله يرفع من يشاء بطاعته، وإن كان عبدًا حبشيًّا، لا مال ولا نسب، ويذل من يشاء بمعصيته، وإن كان ذا نسب وشرف. جاء هشام بن عبد الملك الخليفة، أخو سليمان، فحج البيت الحرام، فلما كان في الطواف، رأى سالم بن عبد الله بن عمر، الزاهد العالم العارف، وهو يطوف، وحذاؤه في يديه، وعليه عمامة وثياب، لا تساوي ثلاثة عشر درهمًا، فقال له هشام: يا سالم: أتريد حاجة أقضيها لك اليوم، قال سالم: أما تستحي من الله، تعرض عليَّ الحوائج، وأنا في بيت من لا يُعْوِزُني إلى غيره، فاحمر وجه الخليفة، فلما خرج من الحرم، قال: هل تريد شيئًا؟ قال: أمِن حوائج الدنيا، أم من حوائج الآخرة؟ قال: أما حوائج الآخرة فلا أملكها، لكن من حوائج الدنيا، قال سالم: والله الذي لا. إله إلا هو، ما سألت حوائج الدنيا مِن الذي يملكها تبارك وتعالى، فكيف أسألها منك؟!. إنهم عظماء لأنهم عاشوا في مدرسة النبي ، التي أخرَجت خير أمة للناس، يرون الذهب والفضة للكفار، فيهدمونها ويطأونها بالأقدام، فيقول لهم المستعمر والكافر: خذوا هذا الذهب، واتركوا بلادنا، قالوا: لا والله، دارنا وبلادنا، جنة عرضها السماوات والأرض. ومـن الذي باع الحياةَ رخيصـةً ورأى رضاك أعزَّ شيء فاشتـرى أم من رأى نـار المَجوس فأُطفئت وأبـان وجه الصبحِ أبيضَ نيِّـرا إنهم أصحاب رسول الله . يخرج عمر رضي الله عنه وأرضاه لاستلام مفاتيح بيت المقدس، فيخرج له الناس، ويستعرض الجيش المسلم، بقيادة أمرائه الأربعة تحت راية أبي عبيدة المقدام الهمام؛ يستعرضون له في الجابية، فلما أشرف عليهم قال: لا إله إلا الله، ثم قال: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، ثم أمر الكتائب والجيوش أن تتفرق؛ فيدخل مسكنه في تواضع وفي هدوء، فلما اقترب الأمراء منه قال: تفرّقوا عني، أين أخي أبو عبيدة عامر بن الجراح، فتقدم أبو عبيدة، فعانقه وبكى طويلاً، فقال عمر: يا أبا عبيدة، كيف بنا إذا سألنا الله يوم القيامة، ماذا فعلنا بعد رسولنا ، قال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، تعال نتباكى، ولا يرانا الناس فانحرفا عن الطريق، والجيوش تنظر إليهما، والأمراء، والقساوسة، والرهبان، والنصارى، فاتجها إلى شجرة، ثم توقفا يبكيان طويلاً. رضي الله عنكم أيها السلف الصالح، يوم عرفتم أن الحياة بسنينها وأعوامها، ينبغي أن تصرف في مرضاة الله سبحانه وتعالى. يقول رستم قائد فارس، وتحت يديه مائتان وثمانون ألفًا من الجنود الكفرة، يقول لسعد بن أبي وقاص القائد المسلم. أرسل إليَّ من جنودك رسولاً أكلمه، فأرسل له سعدٌ رضي الله عنه رِبعيّ بن عامر وعمره ثلاثون سنة، من فقراء الصحابة، قال سعد: اذهب ولا تغير من مظهرك شيئًا، لأننا قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، فخرج ربعيّ بفرسه الهزيل، وثيابه الرثة ورمحه البسيط، فلما سمع رستم أن وافد المسلمين سوف يدخل عليه، جمع حوله الأسرة الحاكمة، والوزراء، والجنود، واستعدوا لأن يرهبوا هذا الوافد، علّه يتلعثم، فلا يستطيع الكلام، فلما جلس رستم قال: أدخلوه عليّ، فدخل يقود فرسه، واعتمد برمحه على بُسُطهم فخرّقها وأفسدها؛ ليظهر لهم أن الدنيا حقيرة، وأنها رخيصة، وأنها لا تساوي عند الله شيئًا، ومن علامات رخصها وحقارتها؛ أن أعطاها هذا الكافر، وجعل سعد بن أبي وقاص ينام على الثرى. فلما وقف أمامه قالوا: اجلس، قال ربعيّ: ما أتيتك ضيفًا، وإنما أتيتك وافدًا، فقال رستم: - والترجمان بينهما – مالكم أيها العرب، ما علمنا – وأقسم بآلهته – قومًا أذل ولا أقل منكم؛ للرومان حضارة، ولفارس حضارة، ولليونان حضارة، وللهنود حضارة، أما أنتم، فأهل جعلان، تطاردون الأغنام والإبل في الصحراء، فماذا أتى بكم؟ قال ربعيّ: نعم، أيها الملك كنا كما قلت وزيادة، كنا أهل جهالة، نعبد الأصنام، يقتل القريب قريبه على مورد الشاة، لا نعرف نظامًا ومبدأ، ولا حضارة – أو كما قال – ثم انتفض ,ورفع صوته كأنه الصاعقة في مجلسه قائلاً: ولكن الله ابتعثنا لنخرج العباد؛ من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا، إلى سَعَة الآخرة، ومن جور الأديان، إلى عدل الإسلام، فغضب رستم وقال: والله لا تخرج، حتى تحمل ترابًا من بساطي، فحمَّله على رأسه، فقال ربعيّ: هذه الغنيمة إن شاء الله؛ تسليم أرضك وديارك، فقُطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [الأنعام: 45]. فلما أشرف على سعد، قال: ماذا على رأسك يا ربعيّ؟ فقال: تراب من تراب أرض رستم وكسرى، فكبر المسلمون حتى اهتز مخيّمهم وقالوا: هو النصر، تسليم أرضهم بإذن الله. وفي الصباح الباكر، يوم أشرقت الشمس بأشعة النصر على الدنيا، كان سعد رضي الله عنه وأرضاه في أول الصفوف، والتقى الجمعان، وبرزت الفئتان، وتبدى الرحمن لحزبه سبحانه وتعالى وفي ثلاثة أيام، تسحق كتائب الضلالة والعمالة، وتداس الجماجم التي ما عرفت لا إله إلا الله، وتضرب الرؤوس التي ما دخل فيها نور لا إله إلا الله، ويدخل سعد في اليوم الرابع إيوان كسرى، الذي حكم الدنيا ألف سنة، فيراه مموَّهًا بالذهب، ويرى الياقوت والزبرجد والمرجان، فيبكي سعد ويقول: كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونَعمةٍ كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قومًا آخرين فما بكت عليهم السماءُ والأرضُ وما كانوا منظرين [الدخان: 25–29]. من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسْ مَك فوق هاماتِ النجـومِ منارا كنـا جبـالاً فِي الٍجبـالِ وربمـا صِرْنا على موج البحـارِ بِحارا كنا نرى الأصنام مـن ذهبٍ فنهـ ـدمُها ونَهدمُ فوقَهـا الكفارا لو كان غيْر الْمسلمين لصـاغهـا حُلْيًا وحاز الكنْـزَ والدينـارا أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم. |