أيها الناس: نحن مع موسى بن عمران في هذا اليوم، وموسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، شخصية لامعة في عالم الدعوة، بل هو بطل القصص القرآني، الذي أنزله الله على قلب النبي ، تسلية له ولأصحابه، وأخذاً للعبر والعظات لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى [يوسف:111]. وكما يقول بعض المفكرين: إن المناظرة بين موسى وفرعون كانت جدليةً، تنظيرية، عسكرية، اقتصادية، تربوية في نفس الوقت. فحيا الله موسى بن عمران، وأهلاً وسهلاً ببطل الدعوة، الذي خاض غمارها، أكثر من خمسين عاماً. فتعالوا نستمع إلى القرآن وهو يقصّ علينا من نبأ هذا النبي الكريم، فمن القرآن نأخذ القصص، ومنه نأخذ طرق الدعوة وأساليبها، ومنه نأخذ الأحكام والعقائد السلوك. موسى في الصحراء، عصاه في يمينه، يجلس في ظل شجرة بعد أن أعياه هشّه على غنمه، فتأتيه عناية الله، وفضل الله، ووحي الله، يأتيه الأمر الإلهي بالذهاب إلى طاغية الأرض، السفاك المجرم، والإرهابي العميل، إلى فرعون الضال، الذي قتل النساء، والذي ذبح الأطفال، والذي دمر الأجيال، والذي استعبد الشعوب، والذي عاث في الأرض فساداً. يقول الله تعالى: وهل أتاك حديث موسى إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبسٍ أو أجد على النار هدى [طه:9-10]. ثم كانت المفاجأة التي لم يكن ينتظرها، فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادِ المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى [طه:11-13]. وكأن موسى عليه السلام يتساءل: من أنت؟ ما حقيقتك؟ دُلني عليك؟ فيقول الله عز وجل: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري [طه:14]. هذا هو رب العالمين، هذه حقيقته عند أهل السنة والجماعة، إذا قال لك أحد من هو الله؟ فقل هو الله.. الذي لا إله إلا هو، فالله يعرف نفسه لموسى عليه السلام، كأنه يقول له: اعرفني قبل أن تُعرف بي، وقبل أن تنطلق بالدعوة إلي إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى [طه:14-15]. فهذه ثلاث قضايا ينبغي أن يعرفها كل من يتصدر للدعوة إلى الله عز وجل. القضية الأولى: قضية التوحيد والعبودية: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني فلابد أن تعلم هذه القضية، قولاً وعملاً، وقد أمر الله نبيه محمداً أن يعلمها فاعلم أنه لا إله إلا الله [محمد:16]. فلا معبود بحق إلا الله، ولا متصرف إلا الله، ولا خالق، ولا مدبر، ولا حاكم، ولا مسيطر، ولا مرجوّ، ولا مقصود إلا الله تبارك وتعالى. القضية الثانية: قضية الصلاة، فلا دين لمن لا صلاة له، ولا امتثال لمعالم العقيدة بغير صلاة. والقضية الثالثة: قضية الإيمان باليوم الآخر، وهي قضية كبرى، ركز عليها القرآن في مواضع كثيرة، وأبطل زعم الذين أنكروا هذا اليوم زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤنّ بما عملتم وذلك على الله يسير [التغابن:7]. فعقيدة لا تبنى على اليوم الآخر عقيدة مهزوزة، وأدب وفن وجمال وتصوير لا يؤسّس على الإيمان باليوم الآخر، جهالة وعمالة ولعنة من الله تعالى. ويوم سخر الكتبة أقلامهم في خدمة الإلحاد، وفي الاستهزاء باليوم الآخر، ضاعوا، وضلوا، ولعنوا في الدنيا والآخرة إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى [طه:15-16]. ثم يتحدث الله بعد ذلك مع موسى حديثاً شيقاً، حديث الأنس واللطف؛ ليزيل الدهشة عنه، وليطرد الرعب عن نفسه، لأنه موقف صعب، لا يتحمله أي إنسان، تصور أنك تكلم الله تعالى، وتستمع إلى خطاب ملك الملوك، موسى كاد يطير قلبه من بين جوانحه، فألقى الله عليه خطاب المؤانسة والملاطفة، حتى لا يستوحش، وحتى لا تسيطر عليه الأوهام، والعرب كانت تعرف ذلك، فهذا الأزدي يقول في قصيدته: أحادث ضيفـي قبـل إنـزال رحلـه ويخصب عندي والمكان جديب وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب فيقول الله لموسى عليه السلام: وما تلك بيمينك يا موسى [طه:17]. ليلاطفه، وليؤانسه. وفهم موسى ذلك، فلم يقل: هي عصاً وسكت، وإنما لما لذّ له الخطاب زاد في الجواب؛ ليستمر الحوار بينه وبين رب العزة قال هي عصاي أتوكّأ عليها وأهشّ بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى [طه:18]. قال ابن عباس : رحم الله موسى، إنما كان يكفيه أن يقول عصاً، ولكن ارتاح لخطاب ربه فزاد في الكلام. والله يسأله عن العصا، لأنها سوف تكون تاريخاً، وسوف تكون درساً للأجيال، وسوف تكون قروناً من العبر. قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حيةٌ تسعى [طه:19-20]. يا سبحان الله!! إن موسى عليه السلام لا يعرف هذه الخوارق، ولا هذه المفاجآت، إنه يعرف أن السماء هي السماء، لا تتغير ولا تتبدل، ويعرف أن الأرض هي هذه الأرض التي يسير عليها، وأن العصا هي العصا، وأن الحية هي الحية. الليل ليلٌ والنهار نهارُ والأرض فيها الماء والأشجار *فلم تنقلب العصا إلى حية تسعى؟! ففر موسى خائفاً، وتصور موسى وهو يفر خائفاً من رب العلمين، فيطمئنه ربه، ويهدئه قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى [طه:21]. فعاد فأخذها، فإذا هي عصا. موسى عليه السلام فر خائفاً من عصاه، ومع ذلك أرسله الله عز وجل إلى ذاك الطاغية المجرم، الديكتاتوري السفاك، الذي كان يلقي المحاضرات على العملاء الأغبياء البلداء، ويقول لهم: ما علمت لكم من إله غيري [القصص:38]. فيصفقون له، ويقول لهم: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي [الزخرف:51]. فيهزون رؤوسهم طرباً، ويسجدون له تذللاً. قال بعض المفسرين: كان على قصر فرعون ستة وثلاثون ألفاً من الحرس، كل واحد منهم يرى أن فرعون إلهه، وخالقه، ورازقه، ومحييه، ومميته!!. ثم قال الله لموسى: واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء [طه:22]. فهذه آية أخرى من آيات الله عز وجل، أدخل يدك يا موسى في إبطك، ثم أخرجها، تخرج بيضاء من غير برص ولا بهق، وقد ذكر أهل التفسير أن موسى عليه السلام كان بيده برص، فأراد الله أن يعلمه أنه على كل شيء قدير. آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى [22-23]. ثم بدأ التكليف بالدعوة، بدأت الرحلة الشاقة المضنية اذهب إلى فرعون إنه طغى [طه:24]. وتصور موسى عليه السلام وهو يستمع إلى هذا الأمر الإلهي، لقد فرّ موسى من فرعون، لأنه تمرد عليه، وقتل شخصاً من رعيته، وقد حكم عليه فرعون بالإعدام غيابياً، ثم يأتي الأمر الإلهي: اذهب إلى فرعون إنه طغى [طه:24]. لم يقل له اذهب إلى حاشية فرعون، أو جنود فرعون، أو أرسل إليه رسالة، وإنما أمره بالتوجه مباشرة إلى هذا المجرم الطاغية اذهب إلى فرعون لماذا؟ إنه طغى . لقد تجاوز الحدّ؛ سفك دماء الأبرياء، قتل الأطفال، نشر الفساد، أرهب العباد، دمر البلاد، داس الأجيال تحت قدميه. فماذا طلب موسى من ربه؟ وعلى الدعاة أن يتنبّهوا إلى هذا الطلب قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي [طه:25-28]. فموسى عليه السلام ما كان يبين في حديثه، بل كان يأكل بعض الحروف إذا تكلم، فليس في استطاعته أن يبلغ الدعوة، وسوف يضحك عليه هذا المجرم العُتُل، وقد فعل ذلك بالفعل، حيث عقد مقارنة بينه وبين موسى عليه السلام، وفضل نفسه على نبي من أنبياء الله، ورسول من أولي العزم، قال في سورة الزخرف: أليس لي ملكُ مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين [الزخرف:51-52]. يقول: إنني أغني منه مالاً، وأعظم منه سلطاناً، وأفصح منه لساناً، فأنا ألقي المحاضرات، وأعقد الندوات، وموسى لا يستطيع ذلك، مع أن هذا بعد أن طلب موسى من ربه أن يحلل عقدة من لسانه، فكيف لو ذهب موسى قبل ذلك؟! إن موسى عليه السلام ما طلب أن يكون أفصح الخلق، ولا أخطب الناس، وإنما طلب أن يكون كلامه مفهوماً، لتقوم بذلك الحجة على فرعون، وقد قامت، إلا أن هذا هو شأن المفسدين، يتصيدون الأخطاء للدعاة الصادقين، ولا يتورعون عن رميهم بالتهم والافتراءات التي هم منها برآء. وطلب موسى من ربه أيضاً نصيراً، ومعاوناً له على تلك المواقف الصعبة واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي [طه:29-30]. سماه وعينه لربه ليختاره له، وعلل لذلك بقوله: اشدد به أزري وأشركه في أمري [طه:31-32]. فإن الواجبات كثيرة، وإن التبعات جسيمة، فأريد أخي ليكون على ميمنتي فيقويني ويثبتني عند ذاك الطاغية الجبار كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً [طه:33-34]. فالاثنان يسبحان ويذكران أكثر من الواحد، والأخ الصالح يذكر أخاه إذا نسى، ويقويه إذا فتر. إنك كنت بنا بصيراً [طه:35]. فأنت الذي أرسلتنا، وتعلم ضعفنا، فأعنا على تلك المهمة الصعبة، وكن معنا بالتأييد والنصرة. ثم كان الجواب من الله الواحد الأحد: قال قد أوتيت سؤلك يا موسى [طه:36]. ولم يقل سؤالاتك، أو طلباتك، لأن المطالب مهما كثرت، ومهما عظمت فهي هينة في ميزان الله عز وجل: إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون [يس:82]. ثم ذكره الله عز وجل بتاريخه وماضيه، وإنعامه عليه في كل وقت، أعاد عليه ذكريات الطفولة والصبا ولقد مننّا عليك مرة أخرى إذا أوحينا إلى أمّك ما يوحى أن أقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليمّ بالساحل يأخذه عدوّ لي وعدوّ له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني [طه:37-39]. وهذه الآيات فيها قضايا أربع: أولها: كأن الله يقول لموسى عليه السلام: لا تخف من فرعون، ولا تتهيب منه، فقد عصمناك منه وأنت طفل رضيع، وقد ربيناك في قصره وفي بلاطه، كنت تضربه على وجهه وأنت طفل صغير، أتخاف منه الآن وأنت في الأربعين، لا تخف منه فإنه أحقر وأهون من أن تخاف منه. فموسى الذي ربّاه فرعون مؤمنٌ وموسى الذي ربّاه جبريل كافرُ موسى الذي تربى في قصر فرعون، هذا القصر الذي فيه الإلحاد والقهر وشرب الخمر وعبودية غير الله، موسى هذا مؤمن ونبي من أنبياء بني إسرائيل. وهناك موسى آخر، موسى السامري، رباه جبريل على الوحي والتوحيد والنور والعبادة، لكنه خرج كافراً مارداً بعيداً عن الله. فلا تستغرب أن ترى شاباً من بيت متهتك، بيت منحل، بيت يعادي شرع الله، وهذا الشاب ولي من أولياء الله، كأنه من شباب الصحابة. ولا تتعجب كذلك إذا أريت شاباً من بيت من بيوت العبودية، بيت ينام على القرآن، ويستيقظ على القرآن، بيت يعظم تعاليم الإسلام، وهذا الشاب ينشأ شيطاناً ضالاً، فهذه حكمة بالغة، وقدرة نافذة. ثم يستمر القرآن في تعديد نعم الله عز وجل على موسى: إذ تمشي أختك فتقول هل أدلّكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقرّ عينها ولا تحزن [طه:40]. لا تظن أننا نسينا النفس التي قتلها، فإن ذلك مكتوب في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولكننا غفرنا لك وفرّجنا همك وقتلت نفساً فنجّيناك من الغمّ وفتناك فتوناً فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدرٍ يا موسى واصطنعتك لنفسي [طه:40-41]. هذا تاريخ موسى أمام عينيه، وكأن الله تبارك وتعالى يقول له: هذا تاريخك يا موسى، وتلك هي الأحداث التي مررت بها، كانت عنايتنا معك في كل حدث منها، وكان حفظنا يلاحقك في كل مكان حللت فيه اذهب أنت وأخوك بآياتي ولاتنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى [طه:42-43]. ولنقف الآن عند هذا الحد، لننتقل إلى قصر فرعون، نستمع إلى ذاك الحوار الساخن الذي دار بين موسى وفرعون، على موسى السلام، وعلى فرعون اللعنة، وهذا موضوع الخطبة الثانية إن شاء الله. أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم. |