عباد الله: يقول – عز وجل – في محكم كتابه: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون [التوبة:6]. وقال أيضاً: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنتم فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين [آل عمران:159]. وقال أيضاً: والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين [آل عمران:134]. وقال : ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه)) [1]. أيها المسلمون: نتحدث في هذه الخطبة عن حقوق الإنسان في الإسلام. وإني لأتخيّل مسجد النبي وقد امتلأ بالمصلين في صلاة الجمعة، وامتلأت الرحبات المجاورة للمسجد، وبدأ الخطيب يمشي نحو المنبر ليخطب في المسلمين. وارتقى الخطيب درجات المنبر، وعليه ثيابه المرقعة الممزقة، ثم سلم على المسلمين وجلس. أتدرون من هو الخطيب؟ إنه خليفة المسلمين عمر بن الخطاب إنه الذي دوّخ الأكاسرة والقياصرة، إنه الذي داس إمبراطورية كسرى وقيصر تحت قدميه. طوت الملائكة الصحف وجلست تستمع. والمسلمون ينصتون، فلا تتحرك شفة، ولا تسمع همساً، ولا ترى حركة ولا التفاتاً. ويتحدث الخليفة في رمضان عن مشكلة المغالاة في المهور، وعن إمكانية تخفيضها، لما في ذلك من إرهاق للمقدمين على الزواج. قال عمر: أيها الناس، ما إكثاركم في صداق النساء؛ وقد كان رسول الله وأصحابه، وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو مكرمة، لم تسبقوهم إليها. فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. لم نزل فاعترضته امرأة من قريش... فقالت له: يا أمر المؤمنين، نهيت الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم. قال: نعم. فقالت: أما سمعت ما أنزل الله يقول: وآتيتم إحداهن قنطاراً [النساء:20]. فقال: اللهم غفرانك..! كل الناس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر فقال: يا أيها الناس، إن كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب [2]. إنه يعيش الخلافة الراشدة بعدلها، إنه يعرف حقوق الإنسان، إنه يدرك وعي الأمة. ينزل الله على نبيه، ، قوله: وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه [التوبة:6]. إن جاءك مشرك معه أطروحة، عنده شبهة، يريد أن يتكلم، فاستمع له وافتح له صدرك، وأسمعه كلام الله، لا تعنّفه، ولا تقده إلى الحبس، ولا تلقه في غياهب السجون. والمواقف التي تدل على حقوق الإنسان في الإسلام كثيرة جداً. أذكر منها ثلاثة، تبين قيمة الإنسان في الإسلام، وأنه ليس بهيمة، إنه إنسان سميع بصير، جعل الله له حقاً ورأياً وكلمة، عنده قلم يحمل إبداعاً، وقد يكون هذا الإنسان خيراً منك عند الله، وأقوم قيلاً. الموقف الأول: أراد عليه الصلاة والسلام، أن يرجع إلى مكة ليفتحها، فكتم الأمر، إلا عن بعض أصحابه، وفشا في الناس أنه يريد حنيناً، فلما كان بالروحاء قال عليه الصلاة والسلام: ((اللهم عمّ عليهم خبرنا حتى نأخذهم بغتة)). إذن فالأمر سرّ لا يجوز كشفه، ومع ذلك ينطلق أحد الصحابة، فيكتب رسالة خائنة، يخبر قريشاً بخبر رسول الله وأنه سوف يغزوهم، ثم أعطى الرسالة امرأة فوضعتها في عقيصة رأسها. ذهبت المرأة إلى قريش، وفي الطريق عند روضة خاخ، بين مكة والمدينة، أنزل الله الخبر من السماء، فانطلق فارسان من المسلمين، وأدركا هذه المرأة، وأخذا منها الكتاب. خيانة مكشوفة، إفشاء لأسرار عسكرية، ومن الذي فعل ذلك، إنه حاطب بن أبي بلتعة، أحد الذين شهدوا بدراً، فاستدعاه عليه الصلاة والسلام، ليشهد على نفسه أمام الله، وأمام المسلمين، وأمام التاريخ، فقال عمر: يا رسول الله، إنه خان الله ورسوله، دعني لأضرب عنقه. ولكن. .قتل الإنسان ليس سهلاً. .حبس الإنسان ليس سهلاً، مصادرة رأي الإنسان ليس سهلاً. فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((يا عمر وما يدريك، لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) [3]، فأنزل الله – عز وجل -: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوكم أولياء [الممتحنة:1]. ويستمر الرسول عليه الصلاة والسلام في طريقه نحو الفتح، فيفتح الله عليه مكة في رمضان، ويلقاه أبو سفيان بن الحارث الذي قاتله، وسبه، وأخذ ماله، وأخرجه من داره، يلقاه أبو سفيان. فيسلم عليه ثم يقول: يا رسول الله: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين [يوسف:91]. فتسيل دموعه، عليه الصلاة والسلام، ويجيب: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين [يوسف:92]. فيدخل عليه الصلاة والسلام مكة فاتحاً منتصراً، يسحق الأصنام ويحطّم الشرك والوثنية. ولما أذن المؤذن لصلاة الظهر، أخذ بأصابعه الشريفة حلق باب الكعبة، وهزها وقال: الحمد لله الذي نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، يا معشر قريش: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء [4]. نعم، إنها حقوق الإنسان، إن من حقك أن تعيش محترماً؛ في كلمتك، وفي رأيك، وفي بيتك، وفي قلمك، وفي مالك، لا تعيش خوفاً ولا بطشاً، ولا إرهاباً ولا تخويفاً، وهذا ما كفله الإسلام لجميع المسلمين على حد سواء، لا فرق بين أبيض وأسود، ولا غني وفقير، ولا كبير وصغير؛ الكل في ميزان الإسلام سواء. وموقف ثان: أتت ثياب من اليمن، فوزعها أمير المؤمنين عمر على الناس، كل مسلم له ثوب، وبقي ثوب لأمير المؤمنين فلبسه، فوصل الثوب إلى ركبتيه، فقال لابنه عبد الله: يا عبد الله، أعطني ثوبك الذي هو حصتك، فأعطاه ثوبه، فوصل عمر ثوبه بثوب ابنه عبد الله ولبسهما. وصعد الخليفة يخطب في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس اسمعوا لما سوف أحدثكم عنه. لكن سلمان له رصيد من الإيمان، فهو ليس بقرشي، ولا هاشمي، ولا عربي، ولا هو من قرابة الخليفة حتى ينال حصانة دبلوماسية لئلا تناله الأيدي، فهو فارسي أوصله الإسلام إلى شرف: ((سلمان منا آل البيت)) [5]. فيصرخ سلمان: والله لا نسمع، ولا نعي، قال عمر : ولم؟ قال: لأنك تلبس ثوبين، وتلبسنا ثوباً واحداً، أين العدالة؟ قال عمر : يا عبد الله: قم فأجب، فقام عبد الله والناس سكوت، فقال: إن أبي رجل طوال لا يكفيه ثوب، فأعطيته ثوبي، فوصله بثوبه ولبسهما. وهنا قال سلمان: يا أمير المؤمنين الآن قل نسمع، وأمر نطع. إن هذا هو الإسلام الذي حرّر الناس من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا، إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان، إلى عدل الإسلام. وثالث المواقف: أن عمر أراد أن يختبر جرأة الناس في الحق، أراد أن يُشطّب على سجلات النفاق والمجاملة والكذب والمدح بغير حق، فوقف على المنبر، ثم قطع الخطبة وقال: ما أنتم قائلون لو رأيتموني حدتُ عن الطريق هكذا.. ماذا ستفعلون لو انحرفت عن المنهج الرباني؟ ما موقفكم لو ظلمت وطغيت؟ لو كان هؤلاء غير رعية عمر لقالوا: أنت لا تخطئ، أنت لا تضل ولا تنسى. .أنت نور الزمان وكوكبة الفلك، وبركة الوقت.. كيف تخطئ والغيث ينزل بسببك من السماء!! أما رعية عمر فليسوا من هذا النوع من البشر فيقف أعرابي في آخر المسجد، ويأخذ سيفه من جانب السارية، ويرفعه إلى السماء ليراه أمير المؤمنين، ويقول: والله يا أمير المؤمنين، لو رأيناك حدت عن الطريق هكذا.. لقلنا بالسيوف هكذا، قال عمر وعيناه تذرفان فرحاً: الحمد لله الذي جعل في رعيتي من إذا حدت عن الطريق هكذا قاموا عليّ بالسيوف هكذا. إن الأمة الممسوخة، هي التي لا تبدي الرأي البناء الصادق، الذي لا يهدّم أمناً، ولا يثير فتنة، ولا يلعب بمقدرات الناس، أما الأمة الواعية فهي التي تقوّم الانحراف، وتقول للمخطئ أخطأت، وللظالم ظلمت، وللمصيب أصبت، وللعادل عدلت. يقول عليه الصلاة والسلام: ((إذا تهيبت أمتي أن تقول للظالم فقد تُودع منها)) [6]. أي سقطت من عين الله، فلا يرضاها أمة شاهدة، ولا يرضاها أمة رائدة، ولا أمة وسطاً. أيها المسلمون: هذه هي حقوق الإنسان، حقوق الأسود، حقوق الأبيض، حقوق الأحمر، حقوق الشعث الغبر، الذين ينامون على الرمضاء، ويلتحفون بالسماء، حقوق الذين يريدون أن يتحدثوا وينصحوا ويوجهوا. أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم (4/1986) رقم (2564). [2] ذكره ابن كثير في تفسيره (1/442) ، وقال: إسناده جيد قوي ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/238) ، وقال : أخرجه سعيد بن منصور ، وأبو يعلى ، بسند جيد . وقد ضعف الألباني بعض طرق وألفاظ هذه القصة. انظر: إرواء الغليل (6/347ن 148). [3] أخرجه البخاري (5/89) ، ومسلم (4/1941 ، 1942) رقم (2194). [4] انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/78). [5] قال الألباني : ضعيف جداً ، أخرجه الطبراني والحاكم عن عمرو بن عف ، وقد صحّ موقوفاً عن علي . انظر ضعيف الجامع رقم (3272). [6] أخرجه أحمد (2/163 ، 190) من حديث عبد الله بن عمرو. |