أما بعد: فإنه لا يخفى عليكم معاشر المؤمنين، ما وقع قبل أيام من وفاة مطرب مشهور، لفظ أنفاسه الأخيرة مغنياً، معانقاً آلة الطرب، على مرأى من الآلاف، وحدث كهذا أيها المؤمنون يحزننا ويؤسفنا ويفطر قلوبنا، فالمؤمن الحق هو الذي يفرح بهداية الناس وعودتهم إلى بارئهم، ويحزن ويأسى ويتألم إذا رأى الناس على معصية وضلالة. وهذا خُلق قدوتنا وإمامنا صلوات ربي وسلامه عليه، حتى عاتبه ربه في ذلك، بل ونهاه أن يهلك نفسه حسرة على كفر الكافرين وإعراض المعرضين، تأمل قوله جل وعلا: فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً [الكهف:6]. قال ابن عباس: باخع نفسك: أي قاتل نفسك: لعلك يا محمد باخع نفسك أي قاتلها حزنا عليهم إن ماتوا على الكفر. يقول ابن الجوزي: وهذه الآية يشير بها إلى نهي رسول الله عن كثرة الحرص على إيمان قومه لئلا يؤدي ذلك إلى إهلاك نفسه بالأسف [زاد المسير (5/105)]. وتأمل قوله جل وعلا: فلا تأس على القوم الكافرين [المائدة:68]. قال الطبري: أي لا تحزن يا محمد على تكذيب هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى. (جامع البيان 6/310). واستمع إلى الإمام القشيري وهو يقول: والحزن على كفر الكافر طاعة. وتأمل أيضاً أيها العبد المؤمن قوله جل وعلا: فلا تذهب نفسك عليهم حسرات [فاطر:8]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تغتم ولا تهلك نفسك حسرة على تركهم الإيمان). فإذا كان المصطفى يحزن على تكذيب الكافرين وعنادهم وكفرهم، فالحزن على ضلالة الموحدين آكد وأبلغ. يقول : ((إنما مثلي، ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحجزكم، وأنتم تقتحمون فيه)) [1]. فنحن نعلنها للملأ عالية مُدّوية: إننا والله لنحزن ونأسى ونتألم ونحن نرى الخلق يبارزون الجبّار بالمعاصي، ونفرح بتوبة الخلق ورجوعهم إلى الله بل ولا نفتأ ندعو لهم ليلاً ونهاراً بالهداية والمغفرة. عن أنس قال: كان غلام يهودي يخدم النبي فمرض، فأتاه النبي يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: ((أسلم)) فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم فأسلم، فخرج وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه من النار)) وفي رواية: ((الذي أنقذه بي من النار)). إي ورب الكعبة هذا منهجنا وهذا هدينا نحمد الله ونشكره إن أنقذ الخلق من النار وأدخلهم برحمته الجنة مع الأبرار. وكما أن المؤمن يتمنى الخير والإيمان والهدى والصلاح لجميع الناس فإنه كذلك يغضب لله وينصح لله ويغار لله إذا رأى حرمات الله تنتهك وإذا رأى أهل الفسق والفجور يظهرون ويبرزون وُيَمجَّدون. ويزداد غضبه لله، وتزداد غيرته وهو يرى المعاصي والمنكرات تُوصف للناس وتقدم على أنها رسالة وأمانة وواجب، وأن الذي يموت في سبيل نشر معصيته بطل ومجاهد وعلم شامخ. إنه ورب الكعبة، آخر الزمان، زمان تتغير فيه المفاهيم وتنقلب فيه الموازين ويضحي المنكر معروفاً والمعروف منكراً، وقد ثبت أنَّ النبي ذم من يسمي الخمر بغير اسمها، فإن مناط الذم وسببه، هو تغيير الحقائق وإظهار المحرمات بمسميات مختلفة تهويناً لشأنها وتضليلاً للعوام من المسلمين. والغناء معاشر المؤمنين، حرام حرمة بينة، لا تخفى إلا على من ختم الله على قلبه أو عقله، عياذاً بالله. وغناء اليوم، أشد حرمة من غناء الأمس، وهو محرم من أوجه عديدة، نتدارس عشرة منها، كل وجه منها يكفي لردع من كان في قلبه مثقال ذرة من حياة وإيمان وخوف من العزيز الجبار. وليس المقام مقام تفصيل، أو رد على شبهات، وإنما هو مقام تبيين وتبصير وتذكير لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد: فكن مصغياً، شاهداً بعقلك وقلبك على هذه الأوجه. أولها: أنه اقترن بالمعازف: والمعازف حرّمها رسول الله ، بل وقرنها مع محرمات معلومة من الدين بالضررة كالزنا وشرب الخمر، فقال : ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحرَ والحرير والخمر والمعازف)) [2]. فتأمل قوله : ((يستحلون))؟! وتأمل ذكر حرمة المعازف مع الحِر (الفرج، كناية عن الزنا) وذكر الخمر والحرير. والوجه الثاني: أنه على الصورة التي وصفها النبي وأخبر أن ظهورها مؤذن بحلول العذاب والنقم كالخسف والمسخ والقذف، فقال : ((يكون في أمتي قذف ومسخ وخسف!! قيل: يا رسول الله متى ذلك؟ قال: إذا ظهرت المعازف وكثرت القيان وشربت الخمر)) [3]. والقِيان جمع قَينة، وهي المرأة المغنية. فتأمل رحمك الله هذا النص المحكم الواضح: سيعاقب الله أمة المصطفى بما عاقب به الأمم من قبلنا، بالقذف بحجارة من السماء وبالمسخ (قردة أو خنازير) أو الخسف، تخسف الأرض وتكثر الزلازل، متى يكون ذلك؟! يكون إذا ظهرت المعازف، ومعنى ظهورها أي انتشارها وكثرتها، فها هي آلات المعازف لا تكاد تحصى عدداً وها هي معاهد العزف ومدارسه في أنحاء العالم الإسلامي وها هن المغنيات المائلات المميلات يحترفن الغناء ولم يبق إلا تحقق الوعيد بالخسف والمسخ والقذف، اللهم لا تؤاخذنا بما يفعل السفهاء منّا. وأما الوجه الثالث: أن في بعضه انتهاكاً للمقدسات والشعائر بل وكلام رب الأرض والسموات فهذا أحدهم يقتبس من آية طه فيقول: رحمن يا رحمن يا من فوق عرشه مستو، وآخر يغني بالتين والزيتون وقل يا أيها الكافرون، وآخر يتربص بالطائفات الغافلات وهن في حالة الإحرام بين الركن والمقام فيتغنى بقوله: قف بالطواف ترى الغزال المحرم حج الحجيج وعاد يقصد زمزما والمصطفى يقول: ((الحجاج والعمّار وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم)). فانظر كيف يتعرض الفساق والفجار لوفد الرحمن بالغزل والمجون وبقية أبيات الأغنية فاضحة فاجعة، يغازل المرأة المحرمة بين الركن والمقام وعند الملتزم بكل بجاحة واستخفاف، ثم نجد من يسمي هذا المجون والفجور فناً ورسالة!! نعم، إنه رسالة، ولكنها شيطانية إبليسية رسالة لإفساد الأخلاق والدين وإثارة الشهوات والغرائز. إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة . وفي بعضها أيضاً استخفاف بالموت والقبر، فهذا مطرب مشهور يقول في أحد أغنياته: أوصي أهلي وخلاني حين أموت يضعو في قبري ربابة وعود والوجه الرابع في تحريم غناء اليوم: أنه يدعو في مجمله للغرام والحب والعشق وكل ما يفضي إلى الزنا وإثارة الغرائز وتحريك الشهوات، لا سيما عند النساء، وقد ثبت أنهن رقيقات يتأثرن بالصوت الحسن فكيف إذا اقترن الصوت الحسن بالمزامير والمعازف، وقد قال : ((يا أنجشة رويدك رفقاً بالقوارير...)). وتأمل قول فاجرة من أشهر أهل الغناء: ما أضيع اليوم الذي مر بي من غير أن أهوى وأن أعشق فها هي كوكبتهم تتحسر على اليوم الذي يضيع دون هوى أو عشق. خامسها: تواردت التفاسير عن السلف وأئمة التفسير، بأن الغناء هو المراد في الآيات التي ذم فيها المولى عز وجل أهل الجاهلية. فهو اللهو: ومن الناس من يشتري لهو الحديث. . . قال الواحدي وغيره: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث: الغناء. وهو قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. قال ابن القيم: "إنك لا نجد أحداً عني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علماً وعملاً، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء". - وهو الزور واللغو: والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو . قال محمد بن الحنفية: الزور هنا الغناء. والزور يقال على الكلام الباطل، وعلى العمل الباطل. - وهو صوت الشيطان وقرآنه، يقول تعالى: واستفزز من استطعت منهم بصوتك . قال مجاهد: "وصوته: الغناء والباطل". سادسها: اقتران غناء اليوم بالتصوير الفاضح، للبغايا والمومسات فما من مطرب إلا ويترنح حوله نفر من الراقصات، وما من مطربة إلا وحولها نفر من الرجال يتراقصون ويتمايلون فمن يجيز يا أمة الإسلام مثل هذا الاختلاط والسفور والرقص وتعرية النحور؟! هذه الأوجه ثابتة في الغناء الذي يكون في الأماكن العامة والحفلات المفتوحة للعوام من الناس. وأما الحفلات الخاصة، التي يحضرها سفلة القوم من الظالمين والفاسقين، فحرمتها آكد وأظهر، ويظهر ذلك. في الوجه السابع: شرب الخمور والمسكرات والمخدرات، فلا يحلو الغناء إلا به ولا يحصل الطرب بدونه فهما توأمان متلازمان. الوجه الثامن: العري الفاضح والحضور الواضح للراقصات المحترفات والبغايا السافلات. الوجه التاسع: انتهاء الحفلات غالباً بجريمة الزنا، فبعد أن يسكر الحضور وتخمر العقول يقع المحذور. ظلمات بعضها فوق بعض. الوجه العاشر: انفاق الأموال الطائلة، في هذه المعصية، فالمطربون يتقاضون أجوراً باهظة بمئات الآلاف، نعم، مئات الآلاف لا عشراتها، لا سيما في الحفلات الخاصة، ويسهم منظمو هذه الحفلات بدفع هذه الأجور وكذا جماهير الحضور. وهذا سفه وتبذير، والمولى عز وجل يقول: إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين . فهذه حرمات الله عز وجل، فلا تعتدوها، وهذه حدوده فلا تتجاوزوها. وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون!!.
[1] رواه مسلم من حديث أبي هريرة. [2] أخرجه البخاري تعليقاً مجزوماً به ووصله غيره كالاسماعيلي. [3] أخرجه الترمذي (ح2213). |